• الأربعاء. نوفمبر 8th, 2023

ذاكرةٌ بيضاء للمستقبل…

ديسمبر 3, 2020

بقلم / احمد وهبي

يبحث عن آلةٍ ذكيةٍ كي تمحو له ذاكرته دون ما تقديرٍ للزمن، يريد ذاكرةَ طفلٍ فحسب، وليس من المهم بمكان لون الآلة، مع أنه حين كان صغيراً، كان يفضّلها بيضاء زرقاء، ورويداً رويداً مال للون الأخضر، وصار يمزج ما بينهما، هكذا يتخيّلُ روحَهُ دائماً في صورة طفلٍ يحبو نحو المستقبل متجاوزاً كلَّ هذا الماضي والحاضر، معيداً تأسيس ذاته دون ما أقيبة التعذيب والجلّادين، دون ما الحياة المكسورة المقهورة والجهات، جامعاً الأتراب والأصحاب في «يو اس بي»، ساخراً بتلك الرغبة والنظرة من كلّ الظالمين والصامتين.
الولوج إلى المستقبل، عملية ذاتية مؤلمة وشاقّة، كمن يجترح نظامَ حمايةٍ من الواقع الآسر للحياة، وكلّما ازداد رسوخاً في نزعته وأفكاره، كلّما تآلم أكثر، وتضاءلت أحلامهُ في ذاته، واستكمالاً لشكل الجوهر، يقيم ما بين التناقضات والإنفجار المحتّم، علاقة متعدّدة الجوانب والإشكاليات، لا يسهو عن ترابط المواضيع والنظريات بنقد الفكر الطائفي العنصري القهري، بالسعي لمجتمع إنساني جديد… مبدع، خلّاق؛ فالجحيم هنا.. من صناعة البشر المتحكّمين بالرقاب والمقدّرات، والإصطلاح الإيديولوجي لديه.. الخالق محبة، الخالقُ لا يُنتج حقداً وكرهاً، قتلاً وتآلها لذوات الحكّام العجائب.
وفي السياق، كان أن أجلسَ في العتمة لوقتٍ طويل، حيث تومض الروح والأفكار، وبقابسات الحروف أضيءُ أبواناً شاسعة من جمالات النفس، من لذاذات الإستمتاع بطعم الكلمات والرؤى. ستة عقودٍ من التجوال في العوالم المرئية واللامرئية، في العوالم الافتراضية، منفرداً… ولمرّةٍ أوافق ما بينها وأطابق، أُطلقُ طيورَ العتبات الى العقول والحجرات المظلمة.
هناك، في الممرّ الطفوليّ سماءٌ مضاءة، في أعماقها كوكبان متزاوجان، عاماً تلو عام بلغ ما توالد عنهما عشرة كواكب من شمسٍ وقمر، والأضواء الخافتة أتحسّسُ سبيلي عبرها، إلى تلك الأرواح اليافعة.
بعد مُسلّمة العمر عن سبعة عشرة ربيعاً، لم أمكث في مكاني أكثرَ من هاتي أضوء، والضوء الأخير، كان شديد الحمُرِ بقتامةِ النجيع؛ فانصرفنا عن مهالكنا بلكناتٍ فارغة الحياة، واليدُ منّا ذات اليمين، ذات الشمال اليد الأخرى؛ فسقطنا في العزلة والخواء، في هذا الهباء لا حاجة للانتظار.
هنا، منذ ولادةٍ جديدة لم تُسجّل في بطاقة الوجود، وفي أوقاتٍ تشابه العراء… كنّا نُقتلُ ثمّ نولدُ في مكانٍ وزمانٍ آخرين، لستُ أدري إن كان في الزمن الماضي أو الحاضر أو المستقبل، هكذا رحنا نستقبلُ وجودَنا بلا تحضيرٍ أو عناية، ثمة حيواتٌ مُخدَّرة، ولكي أتحاشى الوجعَ أقع فيه بكلّ طاقةٍ وإصرار، وهو الواقع الأكثر حزناً، والأيام تناصبنا العداء، وقد علّمتنا الحروبُ ودرّبتنا الخطوب بأن صرنا أقوى عدّائي القرن العشرين والواحد منه، نسابق خيالاتنا بأطوارٍ وأدوارٍ وغايات، وهي من أعمالنا وأفعالنا الرائدة، مخالفات كي نتناسى مآسينا.. ولا لاعترافٍ ايحابي، لكلمة واحدة جامعة.. هي الدليل لفكّّ شيفرة الطلاسم، لولوج تلك العوالم المستقبلية بجلودٍ جديدة، تكون مناسبة تماماً لتلك المطبّات المعولمة.
عينان مختلفتا اللون…
لاحقاً، انتبهتُ لشهوات العيون، كنتُ مُهجّراً ومدرّساً لطلابٍ تجاوزني العديد منهم في الطول والعرض، وبعد عرض العناوين الرئيسية للمواضيع، يحتدم نقاشٌ ماطرُ الأفكار والمشاعر الطيبة الرائعة.
في ما بعد، وبأمرِ الحرب والدّمار، كنّا نلجأ في مكاننا، وأنّى كنّا في مطارحنا العارية، وعلى ذمة القاتل أن الناس… حيثُنا، الذين في المقلب الآخر، هم عرضة للقتل الجماعي بلا سبب أو أحاجي.
حالٌ تعوّدنا عليها حتّى ألفناها، نخرج إلى الدّنيا دون أن ندركَ عودتنا، هكذا في عينِ جدارٍ وجدار عيونٌ أغمضت، لكن لم تحتجب. هكذا، في فم النهار أصواتٌ تُزبد وترعد، تُقلِق السمعَ والبصرَ والحركة، هكذا، في عتمة الليل والغرف البائسة الضعيفة، أرواحٌ في صومعتها تبحث عن بصيص أملٍ وضوء. هكذا، في الأحايين المتعاقبةِ القهوة والشاي والسجائر، المتعاقبة النقاشات والحوارات، المتعاقبة الجَلَدَ والجدلَ البيزنطي، جَلْدٌ مثيرٌ، يُفصحُ عن عاهاتٍ وتشوّهات مجتمعية، هكذا، جولات الصباح والمساء، نعبر أعناقنا بأفواهٍ وخطواتٍ خارجةٍ عن السيطرة، ومِسطرة اللوح في يدي، مسيرةٌ مجهولة، الناس فيها… جهات المعارك المفتوحة على الموت، صليةً تلو صليةٍ وقذيفة نتفقّدُ أرواحَنا، منها مَن أدركناها، منها مَن تصّعَدَ نجيع الشهادة، منها، حيثُنا واقفون نكزّ على الأسنان، نفرك الأيدي بحنّاء التراب، نكتشف نظراتنا كيف تبدو حمراء بهالات زرقاء.
لاحقاً ولمرّةٍ أخرى، نظرت في عينيْ أماني، إبنة أخي ذات السنوات السبع، أدهشتني كيف ابتسمت لي، كيف نظرت لي نظرة الوداع، كيف تبادلنا الألوانَ… ولعينٍ واحدة، أراها، لطالما أراها بعينيَّ، بعينها.