• الأربعاء. نوفمبر 8th, 2023

تطوير مفهوم العــمل الصَّالح

أكتوبر 3, 2022

المستشار أحمد عبده ماهر
محام بالنقض ومحكم دولي وباحث إسلامي

ولقد خبرت النَّاس وهم يظنون في قوله تعالى: لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ الأنعام163؛ وقوله: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ الزمر12؛ فحسبوا أن تلك الأولوية تعني النبي فقط، وهو من انحراف التدبر في كتاب الله، وحتى إن كان ذلك صحيحا أو حوته بعض التفاسير، فأنت مأمور باتباعه، بما يعني أنك مأمور بأن تكون أول المسلمين، وبذلك فأنت في حالة تنافس بينك وبين كل أهل الإسلام الذين يعيشون في زمانك، مما ينبغي عليك أن تكون مبدعًا أو تحاول الإبداع في عملك الصَّالح، وتكون رائدا، يحتذي بك من يريد الرفعة لنفسه، والله تعالى يقول عن الأبرار بالآية 26 من سورة المطففين: خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون، فالتنافس مطلوب، ونحن مأمورون باستباق الخيرات والمسارعة للحصول على مغفرته ورضوانه، ثم جنات النعيم بإذنه ووعده، فإننا إن فعلنا ذلك وانتهينا عن المنكر، كنا خير أمة أُخرجت للناس حقا، وبغيرها نكون أمة من المفلسين كما ترى حالنا الآن.
وكما ذكرت فقد كان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يسألون النبي أي العمل أفضل؟ فيجيبهم، وما ذلك إلا من حرصهم أن يكون عملهم الصَّالح أفضل ما يُرضي الله، وكان النبي يقول أحاديث كثيرة، تبدأ كلها بقوله خيركم، فقال: خيركم من تعلم القرءان وعلَّمه، وقال: خيركم خيركم لأهله، وقال: أحسنكم قضاء، وقال: أحسنكم أخلاقا، وقال: من يرجى خيره ويؤمن شره، وقال: من أطعم الطعام…إلخ، كل ذلك يؤكد حث النبي أصحابه ليكونوا أخير النَّاس بأفضل العمل.
وعلى ذلك فكلما كان عملك الصَّالح متميزا، كلما كان متوائما مع مراد الله فيك، لذلك فالتنافس والتميز والاستدامة وقوة التأثير وكثرة من يخدمهم العمل الصَّالح، كلها تدفع بصاحبها إلى صدارة المسلمين في عهده، وبذلك تكون أول المسلمين، لكنك إن صمت حياتك كلها، ما توصلت لتكون أول المسلمين، إلا إن كنت لا تُحسن غير هذا، فلا تُكلَّف إلا وسعك.
من علامات قبول الله الأعمال الصَّالحة من العباد
إن العمل الصالح واستمراره يعبران عن حقيقة إيمان العبد، ولو قبل الله عمل هؤلاء الباذلين في رمضان، والصائمين في العشرة الأوائل من ذي الحجة، وفي مناسباتهم الدينية الشهيرة، لرأيتهم يملئون المساجد بعد مرور تلك الأيام، وذلك لقوله تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً مريم76؛ وقوله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ محمد17؛ وقوله تعالى: ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ الشورى23؛ فكل ذلك من علامات قبول الله العمل من العاملين، لكنك ترى أنهم موسميون، لا يعملون إلا حينما يُطلَب منهم العمل، وإن عملوا فإن نهجهم هو أقل القليل وبلا تفان، لذلك فإن الله لا يزيدهم هدى، ولا يزيد في حسناتهم، بل يعودون لما دأبوا عليه من هجران المساجد، والامتناع عن صوم السنن، وعدم صلاة الصبح بموعدها، وهجر تلاوة كتاب الله، ويقل إنفاقهم وبذلهم للفقراء بصورة شديدة، وما ذلك إلا لنهجهم في عدم الإخلاص لدين الله إلا بالمناسبات، وبالسنن الخاصة بالشعائر فقط.
إن هؤلاء إن كانوا علموا أن الإخلاص هو مناط القبول، لكان لهم شأن آخر غير نهجهم الميراثي في عمل الصَّالحات موسميا، بينما الله يقول: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ البينة5؛ فالإخلاص هو نبع قبول الله للأعمال، ولا يكون ذلك إلا من همم مندفعة بإيمان يملأ القلوب في كل وقت وحين.
هل ينحصر معنى قيام الليل في الصَّلاة فقط؟.
لقد كان الصحابة يقومون الليل بكثرة الصَّلاة، وسبق وذكرت السبب، وقد وصفهم الله لنا في قوله تعالى بسورة الذاريات: كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ17 وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ18 وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ19؛ فهل ينحصر قيام الليل بأيامنا هذه في الصَّلاة والاستغفار وتلاوة آي الذكر الحكيم؟، أو الاعتكاف بالمساجد للصلاة والتسبيح؟.
إني أرى قيام الليل في طالب يكد في مذاكرته ليلا، وأراه في صحفي يسعى للخبر ليلا لينشره صباح اليوم التالي، وأراه في كل نوبتجي بالليل بكل موقع من مواقع العمل، فنوبتجي محطة المياه أو الكهرباء يقوم الليل وإن لم يركع ركعة واحدة كنافلة في ليلته.
وباحث بالليل بمعمله أو بمكتبته، وفي طبيب بعيادته الخاصة لفائدة المجتمع، ولو كان يربح، وفي محام بمكتبه يسهر لحل الخلاف وأداء الحقوق إلى أهلها، كلهم وأشباههم من القائمين الليل على أن تنصرف نياتهم لأداء أعمالهم لرضوان الله.
وكل تلك الدروب وغيرها لم تكن موجودة على عهد رسول الله؛ فلماذا انحصر فكرنا عن قيام الليل في الصَّلاة فقط، بل وترانا نردد سنويا كالببغاء حين نقوم بها في جماعة ـ بشهر رمضان فقط ـ أن عمر بن الخطاب قال نعمت البدعة هذه، ومنا من يقول بأن الصحابة كانت تتورم أقدامهم من كثرة قيام الليل في صلاة، ولست أدري فقه التورم والدعوة إليه واستحسانه في أيامنا هذه، إلا أنه فقه لأصحاب الأزمات النفسية والفساد الفقهي.
فلماذا لا تأخذون عني بدعة قيام الليل لمصلحة الأمة، ومصلحة الدولة، ومصلحة الحي؟!، هل لابد أن يكون قيام الليل صلاة أو تلاوة فقط؟، إني أرى ما ذكرت أفضل مما ورثتموه بلا اهتمام منكم بتطور الزَّمان والاهتمامات والاحتياجات، وذلك مع تقديسي وأدائي للصلاة المفروضة في موعدها، وللنوافل التي تحتاج لها نفسي، شريطة ألا تؤثر على مصلحة المجتمع، لكن لابد وأن تكون الأسبقية اليوم في العمل الصَّالح لمصالح نماء الحياة والغير، ولا يمنع ذلك أن يصلي من لا يحسن إلا قيام الليل بالصَّلاة فليقطع الوقت في الصلاة كما يشاء.
إن التلمظ النفسي والفكري عند البعض خوفا من ضياع تُراث الصحابة، يعبِّر عن غباء فكري أودى بنا إلى تقليص معنى العمل الصَّالح داخل دائرة الشعائر وما شاكلها من النوافل، مما تخلفت به الأمة، وأصبحت في ذيل الأمم، ولأن هؤلاء السدنة لا يجيدون إلا ذلك الفكر فقد توسعوا في فكر التحريم، وتوسعوا في فقه القُربات من خلال الشعائر بلا ضابط، فها هم يوقفون قص الشعر والأظافر لمن يريد أن يضحي بأضحية لله بمناسبة عيد الأضحى، وكأنهم يضيقون عليه لأنه يريد القيام بسُنَّة، ويزعمون أنه بذلك يحصل له من الثواب ما يحصل للحاج، وهم لا يستحون أن ينسبوا ذلك الهراء لرسول الله، ويقولون أنه بكتب الصحاح التي لا تتواجد بأيديهم نسخة واحدة مخطوطة منه بخط أحد أصحاب الصحاح الذين أُحرقت صحاحهم بحريق مكتبة بغداد حين هاجمها التتار، لكنهم مع ذلك يتعصبون ويقدسون ما لا يجب التعصب له ولا تقديسه، وما أراهم إلا مثل من كانوا يوزعون صكوك الغفران على النَّاس من خلال تعاليم من صنعهم.
الفرق بين العمل الصَّالح وعمل الخير