• الأربعاء. نوفمبر 8th, 2023

تطوير مفهوم العــمل الصَّالح

سبتمبر 23, 2022

المستشار أحمد عبده ماهر
محام بالنقض ومحكم دولي وباحث إسلامي

ووفق إمكانات كل فرد، بما يعني ضرورة إبداع كل فرد فيما أمكنه الله فيه لتنمية أمة بأسرها، أو لإفادة الآخرين، وأخيرا لنفسك وهو أقل القليل.
الدولة وموظفوها والعمل الصَّالح
قد تُنفق أموال الأوقاف في زمان مضى لمساعدة المحتاجين وإنشاء المساجد، لكني أرى أن إنفاقها على البحث العلمي الذي دأبت الدول العربية على عدم مساندته أفضل من إنشاء المساجد، كما أرى أن التخطيط وتنفيذ ربط مصر بالسودان بطريق مُعَبَّد أعظم ثوابا من كل ما غنمه جميع الصائمين هذا العام من ثواب في العالم الإسلامي بأسره.
ولو تعاونا تم لإنشاء جسر بحري بين مصر والسعودية لكان أفضل لاتحاد الأمة وقوتها، ألم ير المسلمون أن فرنسا وإنجلترا ارتبطتا بنفق تحت بحر المانش رغم ما كان بينهما من حروب طاحنة على مر التَّاريخ!؟ ألم يسأل أحد الحُكَّام أو المنافسين من أهل المعارضة في دولنا الإسلامية، لماذا لم ترتبط مصر والسعودية بسكك حديدية عبر خليج العقبة؟، أم ترانا ندرُس الجغرافيا لأجل الحصول على شهادات لا تنفع الأمَّة، أو نتقلد المناصب لأجل استمرار القطيعة والاختلاف بين دولنا!؟ أم أننا نُنَفِّذ للغرب تعليماته لاستمرار الفُرقة والتفكك بين دولنا بينما نصوم ونظن أننا نُحسن الصنع.
ولو تم التخطيط ثم التنفيذ لإنشاء شركة للصيد بأعالي البحار أو حتى ببحيرة ناصر، لكان أفضل من كثير من نوافل الشعائر التي يهتم بها الموظف العام سواء أكان وزيرًا أم رئيسًا لمصلحة، أو رئيسًا لجمهورية أو ملكًا.
كما لم يكن الإنفاق على البحث العلمي موجودا بزمن النبي، حيث لم يكن هناك بحث علمي، وهو اليوم فريضة لازمة في حق القائمين على الدولة، فما فائدة صومهم بينما الدولة تَجُر أذيال التخلف الصناعي والتخلف الزراعي والتخلف التقني في عهودهم؟، لا شك أن مفهومهم عن العمل الصَّالح قد انغلق على فكر قدماء السلف.
كل تلك المشروعات تبدأ من عند موظف عام مخلص في عمله، سواء أكان صائما أيام النوافل أم لا، لكن المهم أن تعلموا أن دروب الإخلاص في زماننا غير دروب الإخلاص زمن الصحابة، وأننا في أيامنا هذه أوفر حظا منهم بتوفر ذلك التنوع، لكن يعوزنا الإخلاص والتفاني والخروج من شرنقة الماضي، بل فقدنا العقل والرشاد، ووقعنا في غرام فقه السلف بلا ضابط.
وحسنا قال الشيخ الغزالي ـ رحمة الله عليه ـ في كتابه ليس من الإسلام: «فمن ظن الدين قياما بأعمال معينة في أماكن معينة فهو واهم، إنه لن يتم إيمان إنسان إلا إذا تكونت في نفسه ملكة الإجادة فيما يوكل إليه من عمل، وهي الإجادة الشاملة التي تبلغ بالأمر تمامه، وتكره فيه القصور، وتخشى عليه الفساد، ….ثم استطرد يقول: إن شر ما أصيب به الدين حصره في طائفة من الأعمال يحسب الجُهَّال أنهم إذا أتوا بها فقد أدوا واجبهم ولا عليهم بعد، هذا الفهم الخاطئ جعل الحياة تشقى بأصناف العابدين الذين يصلون ويصومون، لكن أعمال الحياة تفسد في أيديهم، لذلك لا يؤمنون عليها»، وقال:»إن انحصار العمل الصالح في عبادات خاصة جعل طُلاََّب التقوى يشغلون أوقاتهم المتطاولة بتكرير هذه الأعمال المحدودة وكأنهم لا يرون غيرها وسيلة إلى مرضاة الله».
راجع من ص170ـ172 من الكتاب المذكور.
إن العمل الوظيفي بنظرية ما تيسر إنما يُمثِّل خيانة للأمة، وإن بذل أقصى الطاقة إنما يُعَبِّر عن قويم الأخلاق التي نتنادى بها، دون أن يكون لنا حظ منها إلا من سمات شخصية لا تخرج عن كونها من الذوق، والكفاح لا ينحصر في ميادين القتال، إنما أصل الكفاح من أجل الخير ونماء البشرية.
أمر آخر ألوم عليه نُظُم العمل بديوان الدول، فلقد قام الحكم بالدول الإسلامية بدور الوصي، وقامت الأمة بدور القاصر، ومن ثم نشأت روح الاتكالية بالمجتمعات الإسلامية، واعتمدت الشعوب على الحكومات في ترتيب شئون حياتها العامة والخاصة، كما اعتمدت على التراث والاغتراف منه بلا تعقل لترتيب شئون دينها، فتخلفت الأمة بينما يحسب كل من فيها أنهم يُحسنون صنعا، لذلك بات من الضرورة تدمير المبهمات في حياتنا للخلاص من ذلك النهج، ولابد أن يعلم المواطن كل الظروف المحيطة بحياته ودولته ودينه، ولا يكون ذلك إلا بإطلاق الحريات بكل أشكالها، حتى نخلُص إلى مواطن يُحسن الاعتماد على ذاته، ويطور تلك الذات لمنفعة الوطن.
وقد يلوذ أحد المشجِّعين للذِّكر القولي والتَّرانيم بأن هذا الأمر ليس في مُكنة المسلم العادي، وهو جدل عقيم، إذ إن الموظف المسلم فقد الفكر الصحيح عن العمل الصَّالح، وانتهى أمره أن أصبح يورِّث الأجيال المتعاقبة فكره الضَّئيل المتهالك عن العمل الصَّالح، وحصر انتصاراته في شغل الوقت بتسابيح كان يمكنه القيام بها حين تعلو همَّته العملية لعمارة الأرض، فيغنم الاثنين معا، لكن هيهات لمن ورثوا الضَّآلة أن تقفز هممهم وأفكارهم، بل تراهم ورثوا المسبحة عن أجدادهم، فهذه مسبحة بثلاث وثلاثين حبَّة، وتلك ذات مائة حبَّة، وأخرى بعدَّاد يوصلك إلى مائة ألف تسبيحة، وتلك تبلغ بك المليون تسبيحة….وهكذا، وهذا يصوم النوافل وذاك يقوم الليل، لكن أين فائدة المجتمع أهي في روتين وظيفي وعملي من مصلين وصائمين ومسبحين بالنوافل؟، لست أدري!.
وهؤلاء حين يحين دورهم لتقلد المناصب، لا يجدون في معينهم عن العمل الصَّالح في وحدة الأمَّة إلاّ الشِّعارات والصَّيحات، هذا فضلاً عن عدم قيام الدُّعاة بتوجيه النَّاس لتلك الأهداف العليَّة، ولا زالت أغلب الطرق الصُّوفية لا شُغل لها إلاَّ مقابر الصَّالحين، والسلفية لا همَّ لها إلا النبش والبحث عن فقه الأقدمين، وبينهما جماعات وجمعيات صرفت اهتمامها لإطلاق اللحى والإكثار من استخدام السواك، مع التنسك بشعائر من السُّنَة، والدعاء بالمأثور، وآخرون تصوروا الجهاد وحصروه في حمل السلاح وإثارة الرعب بين النَّاس، وهكذا أصبحت دولنا خرابًا وتخلفًا.
إن تَمَكُن الدولة الإسلامية وأفرادها من الدنيا يوفر قاعدة تمكين لدين الله في الأرض جميعا، وما هزمتنا إسرائيل مرارا، أو لعلنا نخشى مواجهتها أو مواجهة دول مثل أمريكا أو روسيا، إلا لأننا فقدنا الدنيا فأصبحنا أذلاء الأرض بصورتنا الفكرية عن الدين والعمل الصالح، وفقدنا المهمة الإستراتيجية للموظف العام بالدولة .
وأنـا أول المسلمـين
أوج العمل الصَّالح يختلف من شخص لآخر، ومن عصر إلى عصر، ومن مناسبة لأخرى كما تم بيانه، وكان ذلك هو نهج النبي ، لكن لعدم تدبر المسلمين لكتاب الله، وعدم تفهمهم لسُنَّة نبيهم، ظهر المقلدون الذين زينوا ما يقومون به من تقليد، فنعتوا أنفسهم بأنهم سلفيون نسبة للسلف الصَّالح، لكن إذا كنا نستهدف أعلى رضوان لله، فعلينا بحسن مدارسة القرءان والسُّنة، وقد قدمت كيف أن أحاديث النبي وتوجيهاته كان لها أبعاد زمانية ومكانية وشخصية مختلفة.