• الأربعاء. نوفمبر 8th, 2023

تطوير مفهوم العــمل الصَّالح

أكتوبر 10, 2022

المستشار أحمد عبده ماهر
محام بالنقض ومحكم دولي وباحث إسلامي

وثمة فارق كبير بين العمل الصَّالح وفعل الخير، فليس كل فعل خير من العمل الصَّالح، فمن ينفق في سبيل الله أموالاً جلبها من حرام لا يقوم بعمل صالح، إنما يقوم بعمل خير للآخرين، لكن لا يقبله الله، والذي يدخل مزادا يخصص دخله لمصلحة الأيتام، فيشتري رداء لراقصة مشهورة، لا يعمل عملا صالحا، ولا الراقصة التي يهوى لباسها، إنما هو يقوم بعمل خير لصالح الأيتام لكنه ليس بصالح للعرض على الله كحسنة يُثاب عليها، فالعمل الصَّالح يجب أن يكون مما يقبله الله، وأن يكون خالصا لوجهه، وأن يبذل فيه أقصى الطاقة، والله تعالى يقول في مُحكم آيات الكتاب: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِين َالأحقاف15، وكما ورد بالحديث: إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
أما ذكر كلمة الخير في القرءان فيعني الخير المطلق، أي الذي استوفي شرائط قبوله، بما يعني أنه عمل صالح، وقد تعني تلك الكلمة في أحيان أخرى التمايز بين الخير والشر، لكن لا تعارض في تمييز عمل الصَّالحات الذي ذكرناه، عن عمل الخير الوارد بالقرءان على أنه عمل صالح، وهما غير ذلك الخير الذي أطلقه النَّاس في أيامنا هذه بلا تمييز على كل الأعمال، حتى أقاموا المزادات الماجنة واليانصيب وحفلات الغناء والرقص حتى الصباح بدعوى أن الحصيلة ستئول لعمل أو جهات الخير.
تخصص الدعاء وقراءة القرءان
من بين معتقداتنا أن الدعاء مخ العبادة، لذلك ترانا وقد أفردنا للدعاء مرتبة خاصة، ولأسفي فإن الناس قد انتهى جهدهم عند الدعاء، ويتصورون أنهم يعملون عملا صالحا، فهم يدعون الله ولا يعملون.
هل تصور الناس أن الله يجيب دعاء أعزب أن يهبه الله ذرية طيبة!، إنه لابد عليه أن يتزوج أولا حتى يقبل الله دعاءه ويهبه ما يبغيه من ذرية طيبة، لذلك فإن الدعاء بلا عمل غير مقبول، ولقد بين القرءان ذلك بقوله تعالى: وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ البقرة250؛ بما يعني أنهم أقدموا على العمل ثم جأروا لله بالدعاء، ويقول تعالى بسورة يونس: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ9 دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ10؛ وهو ما يعني أنهم آمنوا أولا، ثم عملوا الصالحات ثانيا، ثم دعوا ربهم ثالثا.
وإن الذين تخصصوا في ميكنة الدعاء، والذين طبعوا نصوص الأدعية في كتب، إنما يُخَدِّرُون الأمة، ويصنعون سقطات نفسية استعاض بها أولئك الداعون لله دون عمل يسبق الدعاء، ودون إبداع، ودون دراسات، في زمن يرعى العلم والإبداع، لقد استعاضوا بها عن العمل، وخانوا الأمة حين قاموا بتفسير قوله تعالى إن كثرة الاستغفار القولي تصنع الرفاهية وتزيد في الذرية، وحرضوا الناس على كثرة الاستغفار بقولهم إن النبي كان يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من مائة مرة، ولم يُعلِّموهم أن الاستغفار نسيج عملي يتبعه اعتراف قولي.
إن أولئك الداعين والمستغفرين يظنون أنهم يقومون بعمل صالح، ويمنحون أنفسهم حق الراحة بعد عناء الدعاء والاستغفار، وهو ما يضر بمسيرة الأمة نحو التقدم الخلقي والعملي، وكان يجب التعامل مع الأمر بتكامل، حتى لا تتخصص الأمة في القول بلا عمل، فما أسهل تلك المهمة، وما أسوء نتائجها.
ويسهل على الجميع إطلاق تلك الترانيم القولية التي تخرج من الفم، إن ذلك هو منطق ومنطلق الكسالى من الذين يتصورون أنهم يحسنون صنعا، فقراءة القرءان، والتقعر فيه، وقطع أشواط من الوقت والفكر لأجل أحكام التلاوة، أمر لا بأس به، لكن أن يظل هذا حال كل من بالمساجد في تعاملهم مع كتاب الله ولسنوات عديدة، فذلك ليس بعمل صالح، لكنه إسقاط نفسي ومخدر موضعي يظن به صاحبه أنه يعمل عملا صالحا، لأن الأصل في القرءان التدبر العقلي والتنفيذ العملي لما تم تدبره، والدعوة به.
فضل العمل الصَّالح لصاحبه في الدنيا
وللعمل الصَّالح جزاء في الدنيا قبل الآخرة، فيقول تعالى في شأن جزاء الدنيا: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ النحل97؛ ويقول تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ النور55؛ ويقول تعالى: أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ الجاثية21؛ فالحياة الطيبة والاستخلاف في الأرض والتميز عن أصحاب المعاصي في الدنيا والآخرة هو الجزاء الصريح لمن كان عمله صالح.
جزاء العاملين صالحا في الآخرة
وللمداومين على العمل الصَّالح جزاء مميز في الآخرة، حيث يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْد