• الأربعاء. نوفمبر 8th, 2023

تطوير مفهوم العــمل الصَّالح

سبتمبر 9, 2022

المستشار أحمد عبده ماهر
محام بالنقض ومحكم دولي وباحث إسلامي

وأضرب المثل لتغير نفوسنا، فما كان يفرح به فقير زمن الصحابة إذا ما منحته قطعة من القديد لحم مجفف على حرارة الشمس، لا تقبله نفس فقير اليوم وتعافه ولا تقبله، وأصبح للفتاة رأي في اختيار شريك حياتها عن ذي قبل…وهكذا.
أما عن تغيُّر الأهداف الموضوعية للعمل الصالح ففي زمان كانت الصدقة فيه موضعية، أضحت في زماننا هذا لها ضرورة موضوعية، فليس من أنفق ألفًا من العملات المالية على أسرة كمن أنشأ متجرا لها بنصف هذا المبلغ، فإن أكثرهم نفعا للغير أكثرهم ثوابا، وإن قل إنفاقه، لأنك لا بد وأن توظف جهدك ومالك ليُدِر أكبر النفع على المحتاجين، وهو ما يتطلب منك جهدًا فكريًا لتتمكن من الريادة بين أصحاب الأعمال الصَّالحة، وذلك فضلا أن يكون العمل الصَّالح مما يُرضي الله، وأن يكون خالصا لوجهه تعالى، وأن تبذل فيه أقصى الطاقة، فتلكم هي من شروط العمل الصَّالح المقبول منذ بداية الخليقة.
شرح لحديث نبوي عن العمل الصَّالح
وعودة إلى الفقر الفكري الذي أصاب الأمة من تقليد وترديد الفكر السلفي في تنفيذ تعاليم النبي في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص بمسند الإمام أحمد، حيث قال: ما من أيام العمل الصَّالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر يعني العشرة أيام الأوائل من شهر ذي الحجة، فإن الصحابة الأجلاء حينما سمعوا ذلك من رسول الله أكثروا من الصَّلاة والصوم والذِّكر في تلك الأيام العشرة، وما كانوا يملكون من حيلة في العمل الصَّالح غير ذلك.
لكن ترانا نحن بعد مرور أكثر من أربعة عشر قرنا من الزَّمان، ومع تطور دروب العمل الصَّالح والفوائد المرجوة منه للمجتمع، لا نزال نُقلِّد إنسان القرن السابع الميلادي رغم أنف كل المُتغيِّرات، فنحن لا نجد في أفكارنا معنى عن العمل الصَّالح إلا الصوم، لذلك ترانا نهرول لنصوم فيها كما كان يفعل الصحابة ونظنه أوج الصلاح الذي أمر به النبي، ولم نعلم أن العمل الصالح تتغير قيمته وشكله وأهدافه تبعا لمتغيرات الزمان، وهو ما سيتم بيانه في السطور التالية.
نعم أعلم أن الإمام مسلم ذكر في صحيحه بالحديث رقم (1163) ما رواه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :»أفضل الصيام، بعد رمضان، شهر الله المحرم. وأفضل الصلاة، بعد الفريضة، صلاة الليل»، لكن ذلك عن أفضل الصوم وليس عن أفضل الأعمال، وهو يعني شهر المحرم وليس شهر ذي الحجة.
تباين معنى العمل الصَّالح بتباين الزَّمان و المكان والشخص
لو أننا كنا تطورنا بمفهوم العمل الصَّالح كما تطورت الأزمنة، لعلم الموظف أن كرسي وظيفته كمحراب صلاة، ولاستحى مما يفعله بوظيفته، ولعلم أن ثوابه بالوظيفة العامة أعلى مقاما وعددا من ثواب صومه، ولا يقولن قائل أن الموظف يصوم ويؤدي وظيفته في آن واحد، فإن الرسول يريد منا في الحديث المذكور عن العمل الصَّالح في العشرة أيام الأوائل من شهر ذي الحجة أوج العمل الصَّالح، وليس العمل الصَّالح فقط، لأنه من المفترض أن يكون العمل الصَّالح هو نهج المسلم يوميا، والأوج يكون بتلك الأيام العشرة كما يكون بشهر رمضان.
وما يكون أوج العمل الصَّالح إلا ببذل أقصى الطاقة فيما يفيد أكبر عدد من النَّاس ولأطول مدى زمني، كلٌ وفق طاقته وقدرته، والصوم والصَّلاة والتسبيح لا تتوفر فيها تلك الشرائط قدر ما تتوفر في أداء الوظيفة العامة بإخلاص وإبداع، وقدر ما تتوفر للمجتهدين والمبدعين من المهنيين والحرفيين الذين يريدون رفعة لأوطانهم، إرضاء لربهم وطاعة له في البحث لتنمية دروب تخصصاتهم الحرفية أو العلمية.
فالمدرس الذي يُبدع وسيلة حديثة من وسائل التعليم إنما يقيم أوج العمل الصَّالح…، والحرفي الذي يبتكر أفضل من الحرفي المُنَفِّذ…وهكذا، فلابد لكل منا أن يبذل قصارى جهده وفكره ليفيد من حوله، وليبقى ذكره بعد رحيله عملا تعمُر به الأرض والفكر، وليكن له تلامذة يسيرون على دربه، يؤكدون منهاج إخلاصه ميراثا يسري في الأجيال.
ولي أن أسوق الدليل من السُّنة النبوية فيما قاله النبي ، ولكن بدايةً لابد من العلم أن أقوال رسول الله لها اختلاف وفق البُعد الزمني، وأحيانا لها بُعدٌ مكاني، وأحيانا أخرى تختلف وفق بُعد المُخاطَب..وهكذا، فليس كل قول للنبي صالحًا لكل زمان ومكان كالقرءان الكريم، فإن هذا الفكر أوقع الأمة في أغلاط كثيرة لذلك وجب التنويه.
التباين كان نهج رسول الله
كان النبي يتباين حُكمه أو قوله، تبعا للظروف أو الشخص الذي يخاطبه، أو الزمان أو الحال، فتلك هي سنته التي يجب أن نقف عليها، وندلل عليها بما يلي:ـ
1ـ فمن أمثلة تغيُر الحُكم بتغير بُعد المُخَاطَب، إجابته للذين سألوا عن أفضل الأعمال فقد قال لأحدهم: إيمان بالله ورسوله ثم جهاد في سبيل الله ثم حج مبرور رواه البخاري، وقال لآخر عن ذات السؤال:الصَّلاة لوقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله رواه مسلم، وقال لثالث: عليك بالصوم فإنه لا مثل له رواه النسائي، كما أنه لم يرخص لابن أم مكتوم بأن يصلي في بيته بينما رخص لعتبان بن مالك رغم كونهما يشتركان في انعدام نعمة النظر، المرجع البخاري كتاب الأذان.
2ـ ومن أمثلة اختلاف الحكم باختلاف الزَّمان والظروف، قوله بعد فتح مكة: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وكان يرخص قبل فتح مكة في الهجرة من أي بلد فيه عنت للمسلمين، كما أن هذا الحكم لا ينطبق علينا في هذه الأيام، وإلا ما استطعت أن تغادر بلدك الذي لا تستطيع أن تقيم فيه حدود الله وتهاجر إلى بلد آخر، حتى ولو كان إلي مكة ذاتها.
3ـ ومن أمثلة تغير الحكم بتغير المكان، ما قاله النبي عن تمر المدينة المنورة وفضله في دفع السم، فإن هذا الحكم لا ينسحب إلى أي تمر إلا تمر المدينة…وهكذا.
وقد تختلف قيمة العمل الصَّالح وأهمية نوعيته وفقا للظروف، فحين تكون حدود الدولة مهددة يكون أوج العمل الصَّالح الالتحاق بالجندية، وليس سماع الدُّروس الدينية، ولا الاعتكاف بالمساجد، وحين يعم الفقر يكون إنفاق المال هو أوج العمل الصَّالح، وحين ينتشر الجهل يكون نشر العلم أوج العمل الصَّالح، وهكذا تتغير قيمة العمل الصَّالح المطلوب بتغير الظروف التي تمر بها البلاد.
والأمثلة أكثر من أن أحصيها، فبينما كان حفظ كتاب الله عن ظهر قلب من أوج العمل الصَّالح في زمن سابق، فإنه اليوم ومع المخترعات الحديثة من أجهزة تسجيل وحواسب الكترونية تم تسجيل القرءان بها قد تقهقرت أسبقيته، وأصبح تدبر القرءان هو الأولى ببذل الجهد.
وقول النبي :المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، قد ينحصر في زمانه في المؤمن القوي البنية أو الشخصية، لكنه اليوم يعني أكثر من ذلك فبالنسبة للمؤمن ذي الجاه يعني العمل الصَّالح في حقه إحقاق الحق وإبطال الباطل، وبالنسبة للعالم يعني العمل الصَّالح في حقه الإبداع في نشر العلم، وقد يدفعه ذلك إلى دراسة علم النفس، وبالنسبة للغني قد يكون في زمان مضى أوج العمل الصَّالح إطعام الطعام، أما اليوم فبالنسبة له يكون توفير فرص عمل، أو إنشاء مَصَحَّة للفقراء هو أوج العمل الصَّالح.
ومن البيان العملي لفقداننا التباين الواجب في عمل الصالحات، أنك تجد العاصي القائم على معصيته الذي يصوم وفق منهاج الميراث، يكون أحوج للتوبة من معاصيه عن أن يصوم، وكان حريًا به أن يتوب أفضل له من صومه بتلك الأيام العشرة، لكن ميراثه الفكري يؤثر عليه ويرغمه على الصوم تصورا منه أنه يقوم بالعمل الصالح، وما أراه إلا عملاً صالحاً متوارثاً بلا عقل، وأظنه غير مقبول، فرب صائم لا يأخذ من صيامه إلا الجوع والعطش.