• الأربعاء. نوفمبر 8th, 2023

تطوير مفهوم العــمل الصَّالح

سبتمبر 15, 2022

المستشار أحمد عبده ماهر
محام بالنقض ومحكم دولي وباحث إسلامي

ومن التباين في الأعمال الصالحة وقيمتها وفق تغير هوية كل شخص
ما قيل في التوبة أنها حسن، لكنها في الشباب أحسن، والعدل حسن، لكن في الأمراء أحسن، والورع حسن، لكن في العلماء أحسن، والحياء حسن، لكن في النساء أحسن، والصبر حسن، لكن في الفقراء أحسن، والسخاء حسن، لكن في الأغنياء أحسن، والعمل الصالح حسن، لكنه في الشباب وبنهاية العمر أحسن، والقبض على الدين حسن، لكنه في الفتنة أحسن…وهكذا، نجد تباين قيمة العمل الصالح وفق كل شخص وحالته والظروف المحيطة به.
ثم وفي وجه آخر من وجوه ضبط أمر العمل الصالح عن الاعتبار بما حولنا، ألم ير أبناء ديني كيف تقدمت الدنيا من حولنا بينما أحلنا نحن دنيانا إلى خراب، إن النعاج والأغنام التي نربيها أهزل من أن تقف أمام شموخ أغنام أهل الغرب، ولقد علَّمُونا صناعة الدواجن، ففشلنا فيها، ولا زلنا نستوردها منهم لنأكلها على موائد إفطارنا، بينما نحن ذاكرون وصائمون، ونظن أننا نعمل الصالحات، فأين قيمة الإبداع في العمل الذي تتطور به الزراعات والنعاج والدواجن؟ لقد خرج من منظومة العمل الصالح في ثقافتنا الواقعية.
وكعادتنا في تكريس الضحالة الفكرية فإننا حين أطلقت أمريكا كبسولة فضائية وبها رواد فضاء، وكانت تلك الكبسولة تدور حول الأرض مرة واحدة كل ساعة ونصف، فكان يمر على روادها الليل كله والنهار كله في ساعة ونصف الساعة، فكان شُغلنا الشاغل: كيف يقيم رائد الفضاء ـ إن كان مسلما ـ الصلاة؟، وكيف يحسب توقيتاتها ليؤديها؟، ولم يدر بنا الفكر عن مدى تخلفنا عن الحاضر الذي نحياه!!، ولا مدى ما فاتنا من علم، ولا كيف نلحق بأولئك الذين تقدموا!!، ولأننا لم نتطور فقهيا، ولأننا لا نتدبر كتاب الله فلم يدر بخلدنا أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، فكن ربانيا واجعل عملك كله لمرضاته، واعلم أن رائد الفضاء ليس لديه ماء وضوء، ولا دورة مياه، وحتى الحصير الذي تصلي عليه فهو لا يملكه، لذلك فصلاته تكون وفق ظروفه.
والدعوة إلى الله تراها تعاني من نمط سلوكي من الهشاشة، وذلك بانتقاء الموضوعات المكررة من وجه خاصة بالمناسبات، ومن وجه آخر تكرس لفقه الشعائر والدعاء بالمأثور، وتقليد الصحابة رغم اختلاف الأزمان والعهود، بينما تترك الحابل في النابل لفقه الحياة بدين الله، فقد كرس الدعاة الدين للحياة واعتبروا العلم الشرعي هو العلم الناجع والمفيد والضروري لمن أراد رضوان الله، ولم يبث أحدهم ـ إلا على اختصار واستحياء ـ أن الرفعة في الدنيا والعلوم التجريبية من أصل العمل الصالح، مع عدم إهمال العلم الشرعي، حتى أنك ترى بموطأ الإمام مالك كتاب اسمه كتاب العلم ليس به إلا حديثا واحدا، حيث قال بالحديث رقم: 1821 حدثني عن مالك انه بلغه ان لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الله الأرض الميتة بوابل السماء، بينما يستفيض أي مرجع من مراجعهم في غُسل الجمعة، والبكور إلى الجمعة، واستحباب ما يقرأ يوم الجمعة، وفضل الصلاة على رسول الله يوم الجمعة وليلتها، والتطيب يومها،….وهكذا.
ولقد كان لمؤلفاتهم ونوعيتها وموضوعاتها أكبر الأثر لتكريس هذا الاتجاه بين المسلمين، وبها تخلف جهد المسلمين عن الدنيا، وأصبحت دولهم تسمى بالدول النامية رغم ما يملكون من ثروات وهبها الله إياهم، لأن المخلصين والمتعمقين في دين الله انصرفوا لتلك المحفوظات، وظنوا أنهم أهل التقوى وأهل المغفرة بينما هم يشدون قاطرة الأمة إلى أسفل دون دراية منهم.
لست ضد البكور يوم الجمعة ولا التطيب، ولست ضد الغسل لها وغير ذلك من فقه الشعائر، لكني ضد تكريس الوقت وحشو الأدمغة وتأهيل الناس لعدم رؤية أهمية قصوى إلا لذلك الفقه المستمد من طريقة حياة كانت تصلح للناس في زمن غير زماننا، حتى هلكنا وتخلفنا لعدم سعينا إلا في تلك الدروب.
إن رؤيتي للأمور يجب أن تكون في تطور مستمر طالما حقق ذلك التطور مقاصد الشريعة، وأضرب في ذلك المثل، فتعلُّم الكمبيوتر (الحاسب الآلي)، والدخول على شبكة الإنترنت، أراهما من السنة النبوية، لأن النبي إن كان موجودا بيننا لتعلمهما، لأنه كان خُلُقُه القرءان، والقرءان يقول: …. وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً طه114؛ فلابد أنه سيكون أول من يستزيد من العلم.
وقس على ذلك كل شيء حولنا، لقد أحلناه خرابا ونحن نصوم ونُصلِّي، ونصيح قولا أن عمران الدنيا من الإسلام، بينما لا توجد صناعة ولا زراعة ولا أدب ولا حضارة ولا علوم ولا أبحاث، بل نجد منا من يجهر بكل الفخر بفقر رسول الله، وكأنما يستحثنا على الفقر، وهُم يحاولون تعميق الزهد فينا بذم الدنيا في مقالاتهم وخطبهم، بينما يُعظِّمون فوائد الذِّكر والتَّسبيح والصوم والصلاة، ثم على استحياء يذكرون العمل أحيانا.
وكنتيجة مباشرة لمعتقد أن العلم الحقيقي هو علم الدين، أن خربت بلادنا من التقدم والحضارة في كل العلوم إلا علمًا أكاديميًا في الدين، وهم يفخرون بعدد المآذن في بلدانهم، ويكثر ذكورهم القول بالفخر أيضا بأنه يستطيع أن يتزوج أربع نسوة، بينما لا يدرك حقيقة التشريع فيها، وهكذا أصبحوا حاضرين في الدنيا وكأنهم غائبون، بل ويصيحون بضرورة عمارة الدنيا، ولست أدري أي دنيا؟ وأي عمارة؟، ولست أدري أين الأثر على الأرض لعملهم الصالح الذي يعملونه؟، أو السنة النبوية التي يزعمونها.
لقد ذكر الشيخ/ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ في كتابه كيف نفهم الإسلام بالصفحة رقم 39 منه ما يلي: أتدري معنى تقلُّص الإسلام من الميدان الاقتصادي وانفراد الآخرين بالسلطان الواسع فيه؟، إن معنى هذا هوان رسالته، وبوار دعوته، ثم تقلُّص رُقعته المعنوية والمادية معا، واستحالته إلى أنقاض، لا يُسمح لها بالبقاء إلا ريثما يتم التخلص منها، ويمهد لغيرها.
لقد كتب الشيخ ذلك الكتاب عام 2003 أي منذ أكثر من ثماني سنواتٍ خلت، وما زلنا في مكاننا، لا نتأثر إلا بالقديم والقدماء، وظل فكرنا عن العمل الصالح حبيس ماضي السلف الصالح وصورة أعمالهم، فأصبحنا طاقات معطلة، وإن عملنا فإننا لا نعمل إلا ما يسيء لبلداننا، أو نعمل بصورة عشوائية أو تقليدية، لأننا لم نعلم أن أساس العمل الصالح هو ما يفيد المجتمع، بل ترانا نُقدم أسوأ صورة عن عدم التعاون بيننا، مع فقدان الإخلاص في جميع الميادين.
والعمل الصَّالح قد يكون فريضة، وقد يكون سُنَّة، وفرضيته قد تكون فرض عين، وقد تكون فرض كفاية، فمسئولية الأب في أولاده أن يقوم بتنشئتهم على منوال من رضوان الله، واستمرار وعظهم وهو فريضة في حقه، فإن لم يقم بها أثِم، ومسئولية الأعمام والأخوال فرض كفاية بالنسبة لأبناء إخوتهم، فإن قصّر الأب عن أداء مهمته صارت مسئولية التربية فرض عين على الأعمام والأخوال…وهكذا.
وحكم كون العمل الصَّالح سُنَّة يختلف باختلاف الواقع، فقد تكون سُنَّة يلزم القيام بها، وقد يكون العمل بها مندوبا، فوجود الطبيبة المسلمة يُلزم النساء بالتوجه إليها لتنفيذ سُنَّة التداوي والحفاظ على الصحة، ويكون حينها ذهاب النساء للذكور من الأطباء مكروها، وحينما يكون التداوي بالأعشاب وبأصحاب الخبرات مندوبا، فإنه يكون مكروها في وجود الأطباء والأدوية…وهكذا.
وحين يحُثُّ النبي أُمَّتَهُ على العمل الصَّالح بالأيام العشرة الأولى من شهر ذي الحجة، إنما يطلب زيادة عمل الصالحات، ولا يطلب عمل الخير فقط، ويكون ذلك العمل الصَّالح عملا نوعيا وفق ظروف كل دولة، ووفق إمكانات كل فرد، بما يعني ضرورة إبداع كل فرد فيما أمكنه الله فيه لتنمية أمة بأسرها، أو لإفادة الآخرين، وأخيرا لنفسك وهو أقل القليل.
الدولة وموظفوها والعمل الصَّالح