• الخميس. نوفمبر 9th, 2023

هل كان الفن الحديث أحد أسلحة الاستخبارات الأمريكية؟

أكتوبر 14, 2016

في أواخر أربعينيات القرن العشرين، ظهر من العدم تقريباً فنانون ينتمون لمذهبٍ في الفن التشكيلي عُرِفَ باسم «التعبيرية التجريدية»، ليجعلوا نيويورك مركزاً للفن في العالم. لكن هناك من يقول إن هؤلاء أصبحوا أدوات في يد الاستخبارات الأمريكية خلال فترة الحرب الباردة. الكاتب الفني أليستر سوك يتقصى حقيقة هذا الأمر.
عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة، شهدت الساحة الفنية في نيويورك تطوراً مثيراً، فقد سرت في أوصالها طاقة غريبة الطابع، ولا تُقاوم في الوقت نفسه، بعدما اكتسب فنانون – طالما كافحوا لسنوات في ظل فقرٍ وتجاهل – الثقة في النفس، وحققوا النجاح على حين غرة.
وشكل هؤلاء مجتمعين حركة فنية عُرفت في ذلك الوقت باسم «التعبيرية التجريدية». وتشكل أعمال فناني هذه الحركة محوراً لمعرضٍ كبير يُقام هذا الشهر في الأكاديمية الملكية للفنون في العاصمة البريطانية لندن، ويتضمن 164 عملاً فنياً لثلاثين فناناً (من بينهم فيليم دي كونينغ وجاكسون بولوك ومارك روثكو).
وكان من بين أكثر الأمور اللافتة للنظر بشأن مذهب «التعبيرية التجريدية»، هو تلك السرعة التي نال بها الشهرة والمكانة على الساحة الدولية. فمع أن الفنانين المرتبطين بهذه الحركة استغرقوا الكثير من الوقت لبلورة أساليب فنية تميزهم، فإن الحركة نفسها لم تأخذ وقتاً طويلاً، لكي تحظى بصيت سيىء في البداية ثم بالاحترام لاحقاً، بمجرد أن تبلورت ملامحها بحلول أواخر أربعينيات القرن العشرين.
وبحلول الخمسينيات من القرن نفسه، بات من المسلم به بوجه عام، أن نيويورك – لا باريس – هي موطن أكثر التطورات المثيرة التي يشهدها عالم الرسم والنحت وقتذاك.
ويكفي للتدليل على ذلك الإشارة إلى ما حدث عام 1957، أي بعد وفاة بولوك بعامٍ واحد إثر حادث سيارة. ففي ذلك العام، اشترى متحف المتروبوليتان للفنون لوحة بولوك المعروفة باسم «إيقاع الخريف» بـ 30 ألف دولار، وهو ما مثّل سابقةً – حينذاك – من حيث كونه أعلى ثمن دُفع في ذلك الوقت لشراء لوحة لرسام معاصر.
في العام التالي لذلك، اكتمل انتصار الحركة «التعبيرية التجريدية»، بانطلاق جولةٍ – استمرت عاماً وطافت مدناً أوروبية بينها لندن وباريس وبرلين وميلانو وبروكسل وبازل – لأعمال معرض ذي تأثيرٍ كبير في الحركة الفنية العالمية، حمل اسم «الرسم الأمريكي الجديد»، وهي الجولة التي نُظمت من قبل متحف «الفن الحديث» بنيويورك.
مساعدون دون قصد؟
لكن لم يمض وقتٌ طويل قبل أن تبدأ ردود الفعل العكسية في الظهور. في البداية، ظهرت حركة جديدة في عالم الفنون البصرية، حملت اسم مدرسة «فن البوب» وانتزعت الانتباه والاهتمام من «التعبيرية التجريدية» في مطلع ستينيات القرن الماضي.
أعقب ذلك ظهور مروجي شائعاتٍ همسوا قائلين إن شبهاتٍ تحوم بشكل أو بآخر، حول النجاح السريع الذي حققه مذهب «التعبيرية التجريدية».
ففي عام 1973، نشر الناقد الفني ماكس كوزلوف مقالاً في مجلة «آرت فورم»، تناول فيه بشكل تحليلي التيارات التي شهدها فن الرسم في الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية، ولكن من منظور الحرب الباردة وفي سياقها.
وقيل وقتذاك إن هذا المقال كان بمثابة رد فعل من جانب كوزلوف، على مطبوعات نُشرت في ذلك الوقت وسادها مزاجٌ احتفالي مفعمٌ بعبارات تهنئة الذات فيما يتعلق بوضع الرسم الأمريكي في تلك الفترة، مثل كتابٍ صدر عام 1970 بعنوان «انتصار الرسم الأمريكي: أول تأريخ للحركة التعبيرية التجريدية» ل «إرفينغ سيندلر».
وذهب كوزلوف في مقاله للقول إن مذهب «التعبيرية التجريدية» لم يكن «سوى شكلٍ من أشكال الدعاية النافعة»، تناغم مع الإيدلوجية السياسية التي تبنتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة في فترة ما بعد الحرب.
الفكرة بدت منافيةً للعقل من أوجه عدة. فغالبية المنتمين لهذه المدرسة كانوا في الأساس من أصحاب الشخصيات المتقلبة الذين يتسمون بعدم انتمائهم للمؤسسة التقليدية في الولايات المتحدة.
فقد قال بولوك يوماً إن جميع من كانوا معه في مدرسته العليا بلوس أنجليس كانوا يحسبون أنه «متمردٌ عفنٌ من روسيا».
أما دافيد أنفام، أحد المسؤولين عن معرض الأكاديمية الملكية بلندن المُقام حالياً فيقول، إن «روثوكو قال إنه كان فوضوياً. كما كان بارنت نيومان فوضوياً بشكل معلن، وقد كتب مقدمةً لكتاب ألفه (بيتر) كوبتكين عن الفوضوية. لذا فقد كان لديك هنا تلك الآصرة التي تربط فنانين غير ملتزمين بالأعراف والعادات المتبعة في المجتمع، ممن كانوا منسلخين تماماً عن الثقافة الأمريكية. لقد كانوا على النقيض تماماً لمقاتلي (الحرب) الباردة».

رغم ذلك، رسخت أفكار كوزلوف أقدامها. ولا عجب في ذلك، ففي عام 1967 – أي قبل نشرها ببضع سنوات – كشفت مجلة «نيويورك تايمز» النقاب عن أن مجلة «إنكاونتر» الليبرالية المناوئة للشيوعية، كانت تُمول من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي أيه) بشكل غير مباشر.
ونتيجة لذلك ثارت الشكوك والتساؤلات: فهل كان لـ»سي آي آيه» يدٌ هي الأخرى في الترويج للتعبيرية التجريدية على الساحة الدولية؟ وهل كان فنانٌ مثل بولوك مروجاً لأفكار الولايات المتحدة سواء عامداً أو غير متعمد؟
قوة ناعمة

وأعقب نشر مقال كوزلوف ظهور عدد من المقالات والكتب والموضوعات المتعمقة التي تبنت وجهة النظر القائلة إن الـ»سي آي أيه» تحكمت في الحركة «التعبيرية التجريدية» بصورةٍ ما.
ففي عام 1999، نشرت الصحفية والمؤرخة البريطانية فرانسيس ستونر سوندرز كتاباً عن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية و»الحرب الثقافية الباردة»، أكدت فيه أن «التعبيرية التجريدية كانت تُوظف باعتبارها أحد أسلحة الحرب الباردة».
وتوجد على شبكة الإنترنت خلاصةٌ لحججها في هذا الشأن، وذلك في سياق مقالٍ نشرته في صحيفة الإندبندنت عام 1995، وقالت فيه : «كأي أمير من عصر النهضة – ولكن سراً هذه المرة – تعهدت الـ ‘سي آي أيه’ اللوحات الأمريكية المنتمية للمدرسة التعبيرية التجريدية بالرعاية والعناية، وروجت لها في مختلف أنحاء العالم لأكثر من 20 عاماً».
وتمحورت براهين سوندرز على صحة هذا التصور حول أفكارٍ من قبيل أننا نعلم جميعا أن الـ»سي آي آيه» موّلت مبادرات وتحركات ثقافية في إطار حربها الدعائية ضد الاتحاد السوفيتي.
وقد جرى ذلك بصورة غير مباشرة، عبر مسار كان يُعرف باسم «الرَسَن الطويل»، جرى من خلاله إيصال هذه الأموال باستخدام كيانات من قبيل «منظمة الحرية الثقافية»، وهي مؤسسة مناصرة للأفكار المناهضة للشيوعية عملت في 35 دولة، وساعدت الاستخبارات الأمريكية في تأسيسها وتمويلها.
وكانت هذه المنظمة – على سبيل المثال – وراء إصدار مجلة «إنكاونتر» عام 1953. كما أنها موّلت رحلة أوركسترا بوسطن السيمفوني إلى باريس للمشاركة في مهرجانٍ للموسيقى الحديثة.
وتقول سوندرز إن هذه المنظمة موّلت كذلك العديد من المعارض الكبرى، التي نُظمت لأعمال «التعبيرية التجريدية» في خمسينيات القرن العشرين، بما في ذلك «معرض الرسم الأمريكي الجديد»، الذي جال أوروبا بين عامي 1958 و1959.
ويُقال إنه لم يكن بوسع معرض «تيت مودرن» في لندن، تحمل نفقات استقدام المعرض للعاصمة البريطانية، لذا تدخل مليونير أمريكي يُدعى جوليوس فليشمان، ليتحمل هذه النفقات حتى يتسنى إقامة المعرض في المملكة المتحدة.
وكان فليشمان رئيساً لكيانٍ تموله الـ»سي آي آيه» ويحمل اسم «مؤسسة فارفيلد». ولذا من الممكن الادعاء بأن أفكار فنانين تجريديين بريطانيين مهمين مثل جون هويلاند – الذي أثر المعرض الذي أُقيم في «تيت موردن» عميقاً في أعماله – قد تشكلت من جانب الاستخبارات الأمريكية.
كما أبرزت سوندرز الروابط التي كانت قائمة بين الـ»سي آي آيه» ومتحف «الفن الحديث» بنيويورك، الذي لعب دوراً فعالاً في الترويج لفن «التعبيرية التجريدية».
فقد كانت لـ»نيلسون روكفلر»، مدير المتحف خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، صلاتٌ وثيقة بأوساط الاستخبارات الأمريكية حينذاك. وكذلك فعل السكرتير التنفيذي للمتحف توماس برايدن، الذي أدار الأنشطة الثقافية والدعائية لـ»سي آي آيه» قبل حتى انضمامه إليها.
فطنٌ وساخر

وحتى يومنا هذا لا تزال مسألة وجود دورٍ للاستخبارات الأمريكية في دعم الحركة «التعبيرية التجريدية» أمراً مثيراً للجدل. فبنظر إرفينغ سيندلر – الذي يبلغ الآن من العمر 91 عاماً – ليس لما يتردد في هذا الشأن أيُ أساسٍ من الصحة.
وفي اتصال هاتفي أجراه معي من شقته الكائنة بحي «غرينتش فيلدج» في نيويورك، قال لي الرجل: «لم يكن هناك أي دورٍ على الإطلاق لأي وكالة حكومية. لم أر حقيقةً واحدة تشير إلى وجود هذا النوع من التواطؤ. (إن كان هناك شيءٌ من هذا القبيل) لكان من المؤكد أن يظهر بحلول وقتنا هذا .. أليس من المثير للاهتمام (تذكر) أن الحكومة الفيدرالية (الأمريكية) اعتبرت حينذاك ‘التعبيرية التجريدية’ مؤامرةً شيوعية لتقويض دعائم المجتمع الأمريكي؟
أما دافيد أنفام فقد كان أكثر وعياً وحذراً، إذ قال إنه من قبيل «الحقائق الموثقة جيداً» كون وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية قد اختارت توظيف «التعبيرية التجريدية» في حربها الدعائية ضد الاتحاد السوفيتي السابق.
واستطرد بالقول إنه «حتى (معرض) الرسم الأمريكي الجديد» استفاد من تمويلٍ قدمته الـ»سي آي آيه». ويرى الرجل أنه من اليسير فهم السبب الذي حدا بالاستخبارات الأمريكية للعمل على تشجيع هذا المذهب الفني، قائلاً: «إنها استراتيجيةٌ شديدة الفطنة والدهاء وتنطوي على سخريةٍ في آن واحد .. لأنها أظهرت أن بمقدورك أن تفعل كل ما كان يحلو لك في أمريكا».
فبحلول خمسينيات القرن العشرين، كان مذهب «التعبيرية التجريدية» يرتبط بمفهوم الحرية الفردية، وكانت لوحات الفنانين المنتمين لهذه المدرسة الفنية تُفهم على أنها تعبيرٌ ذاتي عن حياة كلٍ منهم، وعما يدور في داخلهم.
ونتيجة لذلك، شكلت تلك الحركة الفنية الأمريكية وسيلةً مفيدة لإلحاق الهزيمة بالمدرسة الواقعية في الرسم، التي كانت مُعتمدة رسمياً في الاتحاد السوفيتي السابق، والتي كانت تحبذ الرسوم التي تُصور الحياة كما هي دون نزوعٍ للمبالغة أو الخيال.
ويقول أنفام: «من الوجهة الثقافية؛ كانت أمريكا أرض الحرية، بينما كانت روسيا سجينة»، واصفاً بذلك التصور الذي سعت «سي آي آيه» لترسيخه خلال الحرب الباردة.
ولكن ما سبق لا يعني بطبيعة الحال أن فناني هذه الحركة كانوا متواطئين هم أنفسهم مع الاستخبارات الأمريكية، أو حتى على علم بأنها توفر التمويل للمعارض التي تضم لوحات مدرسة «التعبيرية التجريدية».
وفي نهاية المطاف، وأياً كانت الحقيقة بشأن حجم «الدعم المالي المفترض» الذي قدمته «سي آي آيه» لتلك الحركة الفنية، فإن أنفام يقول مبتسماً إنه يرى أن ذلك الأمر شكّل «أفضل ما مولته» الاستخبارات الأمريكية على الإطلاق. ويضيف قائلاً: «أُفضِلُ أن ينفقوا الأموال على الحركة التعبيرية التجريدية، بدلا من إنفاقها للإطاحة بحكام يساريين مستبدين».