• الأربعاء. نوفمبر 8th, 2023

مسرحيون من رفاق الدرب يخلّدون ريمون جبارة في الأعماق

أبريل 19, 2015

 

 

 

فاطمة عبدالله

الذين أحبّوا ريمون جبارة أبقوه الى الأبد في الروح والعقل. مسرحيون من رفاق الدرب عاشوا معه الهمّ المسرحي وظلّ بالنسبة إليهم حبيباً ومرشداً ومعلّماً، يروون روعة الرجل وفائق حضوره في الأعماق. عشقوا الفجيعة في سخريته والمرارة في طيّات السعي الى الارتقاء. رحل ريمون جبارة بالجسد، فإذا به في عمق الوجدان وعظمة الذاكرة الصافية.
نضال الأشقر: موهبته تفوق الوصف
فاقت موهبة ريمون جبارة إمكان وصفها. رجلٌ مختلف في نصوصه، بمرارتها وسخريتها وتسبّبها باللذع. تناول في مسرحه إشكاليات المجتمع والسياسة بالاختلاف الذي يملك. رائد روّاد المسرح، كاتب، صحافي، حرٌّ، ومؤلمٌ بالسخرية. يجعل الموضوع العادي مزيجاً من العمق والتفاصيل الدقيقة. إنسانٌ طيّبٌ جداً. روحه طرية. ناضل ليروّض الحياة فلا تكسر عزيمته. وعلى رغم مرضه ومعاناته، علَّم وأخرج وأثبت حضوراً هائلاً في الحياة اللبنانية. موارب بسخرية، يرميها في أحيان ويترك لنا أن نتلقّفها. جوّه غير تقليدي وإنسانيته عظيمة. لم يسخر بغرض السخرية. سخر ليتغلّب على كلّ علّة. المرض والجسد والحياة والحرب والمأساة الإنسانية. اشتداد أوجاعه وحاجته الى الاستراحة، لا يلغيان ألم الحزن على رحيله. أحزنُ عليه كما أحزنني رحيل يعقوب الشدراوي. كلاهما أعطب الروح وخلخل أعمدة المسرح.
شكيب خوري: لم يُحارب موته
أنجز ريمون جبارة ما تمناه. أعتقد أنه رحل أمس من غير أيّ إحساس بالندم. توقَّع رحيله لأنه في الآونة الأخيرة راح يألفه. عاش هذا الرحيل قبل أن يحلّ.
لم يحارب ريمون جبارة موته. رافقه اقتناعٌ بأنّه بلغ من الحياة ما أراد. ونال حقّه. أكمل أيامه الأخيرة بصمت. بالصمت البليغ البالغ الهيبة. موته، على رغم “بديهيته” في هذه الحال، أشعرني بالتعب، وبأنّ ضغطي راح يرتفع وأعصابي توتّرت. لا يُكتَب في أمثاله الرثاء. هو حيٌّ. بأعماله وهالته على المسرح. وهو الخالد في ذاكرة المجتمع. تتواصل الروح مع الروح لتزفّ الى السماء رجلاً من تركيبة نموذجية نادرة. صاحب حضورٍ لا يهتزّ. تتفق مناسبة رحيله مع القيامة. والقيامة أبدية. لذلك لا ذهاب له. فكَّر في لحظات الانفعال أنّ الحياة لا تساوي شيئاً. وظلّ متمسكاً بالنضال، وبقدرة الانتصار على كلّ عقبة. ريمون جبارة أكثر من شخصية. وأكثر من ذات. أذكر أنه كتب ذات مرة في “ملحق النهار” قصيدة لم أقرأ مثلها. أفتُتنت به منذ تلك اللحظة.
رندا الأسمر: تعلّمنا منه الكثير
ريمون جبارة لا يُنسى. دائم الوجود ولو غاب الجسد. أرفع له الصلاة كلما زرتُ الكنيسة. وسأظلّ أفعل. جبّار. عاش بشلله الجسدي من غير أن يتذمّر. شامخ الرأس يرفض الهزيمة. لقّننا الدروس من دون قصد. منه تعلّمنا عدم الرضوخ للحياة بانكساراتها ومآسيها. وتعلّمنا منه أن نحارب طالما في القلب نبض. ونُبقي السعي نحو الأفضل، بالفن وحده، وبتفريح ذاكرة الناس وحضّهم على التحلّي بالأمل مهما اشتدّت الظلمة. مات ريمون جبارة، وأنا التي مراراً آلمني الموت حدّ الكيّ. لحظة الموت هي لحظة الفراق الأبدي حيال مَن نحبّ. علينا تقبّلها، ولا خيار آخر. ريمون جبارة في الذاكرة، معلّماً ومخرجاً ورفيقاً وكاتباً عظيماً، ولا شأن لذلك بوجود الجسد أو بزواله. له فَضلٌ لا يُقدَّر على ممثلين جعلهم أصدقاءه، وشكرهم على كلّ خطوة. مثال التواضع. اشتدّ عودنا لأنّه درّبنا على التحمُّل. الأساتذة من أمثاله خالدون. لا تنفكّ كلماته في البال: “أحدٌ لا يأخذ مكان أحد. الدنيا بتساع الكلّ، والفرصة بتجي لحالها”. رحل أمس رجل يختزل الإنسانية في فكره. استمرّ يردد أنّ الحياة نفق، له بداية ولا ندري متى نصادف نهايته. ثم يضيف: “وإنما بين البداية والنهاية ثمة إنسان يحتاج الرأفة. إنه أخونا في الرحلة عينها مهما قسا عليه الدهر ونال منه”. كم أحبّ الناس حتى آخر نَفَس. أحبّهم حدّ إبقاء روح الدعابة على رغم الصعاب وتعب العُمر. تلك الروح التي بها قَلَب المأساة ابتسامة لنُكمل المشوار.
جلال خوري: مَسْرَحَ نهايته
جمعنا مقعد واحد في مدرسة الحكمة. وبعدما غاب عني سنواتٍ، التقيته به مجدداً عندما كان يعمل مع أنطوان ملتقى. ترددتُ الى رشانا حيث مهرجان رشانا المسرحي، وهناك شاهدته على الخشبة للمرة الأولى. أذكر كم كان مميزاً آنذاك. كانت مسرحية “الجريمة والعقاب” بداية إعجابي برجل لا يتكرر.
ثم جمعتنا الصداقة وسافرنا معاً مرات عدة. في الستينات طلبتُ إليه ترجمة مسرحية كتبتها باللغة الفرنسية. ولّدت الأيام بيننا علاقة، فكنّا نلتقي في المناسبات وخارجها. وتابعتُ نشاطه منذ البداية، وأجد أنّ “تحت رعاية زكور” واحدة من أهم مسرحياته على الاطلاق.
ريمون جبارة كإنسان مارس السخرية بكثيرٍ من الاحتراف. سافرنا ذات مرة للمشاركة في مؤتمر بألمانيا، فهبّت عاصفةٌ مخيفة ونحن في عمق السماء. لم يتوقّف للحظة عن ممارسة السخرية. محبٌّ وساخر، جمع حوله نخبة من الممثلين تفانوا من أجله. قدّم أمثولة المسرح “الهامشي” المميز بالهامشية في ذاتها، غير الخاضع للأصول المألوفة. أغلب الظنّ أنّه أراد مسرحاً للنخبة، فإذا بها تعطيه ما يشاء. حتى إنّه في مكان ما، راح يعتبر المسرحية الناجحة شعبياً “فاشلة”. أعماله واحدة، في الكتابة الصحافية أو المسرح أو التمثيل أو في تعامله مع الآخرين. عظيم في كلّ هذا. حتى يتراءى أنه مَسْرَح نهايته. رجلٌ “شببلك” وقلق في آن واحد.
يخشى الوحدة، وظلّ يجابه مصائب الحياة بسلاحه المفضّل:
السخرية.
رفعت طربيه: دونكيشوت يُلاحق أحلاماً لا تتحقّق
أستطيع الآن أن أقول إنّ المسرح اللبناني أُصيب بجلطة. كما حلّ المرض في جسد ريمون جبارة وأقعده، ها الشلل يصيب الكيان المسرحي اللبناني برحيله. لا أذكره إلا “أبو الريم”. عشنا الحياة معاً بهدوئها وصخبها. سريع البديهة، من النظرة يفهم. نادرٌ جداً. لا يحلّ مكانه أحد. سُعدت برحيله، فكفاه معاناة. نستطيع الآن مراسلته من السماء حيث لا تسير الأمور هناك على ما يرام. ريمون جبارة أراد هذا الرحيل منذ مدة. قرّر أن يذهب. أفرط في التدخين على رغم تحذير الأطباء لأنّ الحياة تراءت له غاية في العبثية. لا يعني ذلك استسلاماً لليأس، ولا رفضاً للإنتاج على رغم ظروف الجسد. لكنّ ريمون جبارة ملّ “المشورة” بعينيه. تاق للمشي على قدميه. يشبه دونكيشوت حين يلاحق أحلاماً لا تتحقق. خانه جسده وجعله يتعب. زرته قبل ساعاتٍ من رحيله وأخبرته أنّ شابات جميلات يسألن عنه. ضحك. أجزم أنّه كان في ذروة وعيه. لعلّها سكرات الموت والصفاء الأخير. أفقد أباً وأخاً ومعلّماً لا يُعوَّض. ريمون جبارة عُمر. منذ العام 1973 وهو في أبهى حضوره فيّ. مَن غادروا هذه الأرض أكثر من الباقين عليها. في إمكان ريمون جبارة أن يعيد المجد إلى المسرح. يكفي أن يقرر فيفعل.
كميل سلامة: “نيّالنا”!
لو كنت من القائلين إنّ ريمون جبارة لم يعد بيننا لما كتبت. فأنا لست بارعاً في تنميق الأحاسيس. بالنسبة إلينا، نحن مَن رافقنا ريمون جبارة، لن نستسلم للذكريات بل سنغرف منها ذلك الفرح الذي غلّف كل لحظة من لحظات المسرح معه. فعل “كان”، لن يعنون أيّ جملة عن ريمون. ريمون ليس ذكرى بل هو حياة ، ليس ماضياً بل هو مستقبل. كلّ مَن يريد أن يعرف ريمون جبارة علينا أن نقول له: أنظرْ في عيوننا، راقِبْ كيف نعمل، تعلّم كيف نحبّ مَن سيعمل معنا. هذه كلّها إشارات واضحة تجيب عن كلّ سؤال له علاقة بما عشناه معه. “نيّالكن قعدتو معو، نيّالكن اشتغلتو معو”. قولوها باستمرار، فلن نضع خرزة زرقاء، بل سنضحك ونضحك لأنّه بالفعل “نيّالنا”!