• الخميس. نوفمبر 9th, 2023

وقد بسطتُ حصيرةً فينيقيّة

نوفمبر 18, 2021

بقلم / احمد وهبي

في سياق سيرورة الوجود، دليلٌ سياحيٌّ كي نحظى بسلوةِ فاصلٍ زمانيّ، والأمكنة الكثيرة تصير صورَ النفسِ بحبكةٍ متباينةِ الأغشية، نعمل على تمشيطها، والإصغاء .. أترك له وزنَ الصّمتِ، ولأنّ المعرفة الواقعية غاية، أنصبُ لها مرايا عملاقة، تسبرُ الأبوان والكائنات، وبعضها في شمس داخلتي، وقد اختارتني، واصطفتني لذاتي، تلك، التي منحتني كتاباتي …
الذاهبون في دمي، لم أشأ أن أحملهم إلى منافي الأرواح، وعلى اللسان قلوبٌ تنبض، فوق الثغر قُبَلٌ من كلِّ لونٍ وشغف، وكما يصير الوقتُ التالي أياماً معدودات، أختلف إلى دفاتري القديمه، أفتح صفحةَ الأصوات، أصيخ السمعَ لأصواتهم، لصرخاتهم وهمساتهم …
وإن هاجت المُقَلُ، فتحتُ على الوجوه، وسرَتْ قشعريرةُ الملامح، وتمازجت سوائلُ الدّمع والعَرق، الندى والعطور، وتباسمتِ الزهور، وتغامت بتلاتُها ترفرفُ، حيث وجوهنا بأغصان الحبور
وتاليات الصفحات، أطفحها بطريق الآلام بلا نهاية، ولأنّها البداية الأبديّة .. كسيمفونية إلهامي وأيامي، أعتصرُها بخلاصة الشفق، أهجسُها بأسنان المشط، لذا، رتبّتُ الحروفَ، هذّبتها، شذّبتها بعروق مشاعري، وعند فيروز المتوسط، أبسط حصيرةً فينيقيّةً مذيّلةً باسمي، وتلك الحواضر الغارقة بلحومنا ودمائنا، نرفع أنخابَها لأطيافٍ أراها، أعرفها، أتوق إليها، إليُّ، كيف نحن معاً لا تجفُّ نجومُنا، تصدح بروقُنا بأسمالنا تحت الجلود …
بشعورٍ ممزوجٍ برحى المواهب والمواخير، في سهرات المجون، عارضات الشهوات، أرفع لُزوجَتها برفقٍ وتوئدة، برقّةِ بتلةٍ من وردةٍ معلّقةٍ بسترةِ الحرب، والجرعة الزائدة ..
جبهات الإنتشاء بأزيز الرصاص، اتدثّرُ منها بعبق الموسيقى، والعيون المرتابة الغمّازات، أقطر فيها من أدرينالين الخطباء، وبحماسةٍ لقيطةٍ …
أعجنها بوعاء ليلي، أخبزُها بلهيب جوارحي، أصبُّ فوقها عسلَ البكاءِ والشِّعرِ الضال، ومَن كان على سفرٍ، أو مريضاً، فقُبَلٌ من أيامٍ أُخَر، أجيئها بكِمامةٍ ورديّةِ الشرفات، والمصاريع ضمّتها الأقفال، والأشجار …
ها هي تلوح لنا، لا نجروء اقتراباً، كي لا تُخربِشُنا أقلامُها، كي لا نبدو على غير هيئة، لربّما هيئاتنا المُريبة، لا نودُّ عنها افتراقاً …
كأنّا في العصر الجليدي، ولم يعُد للعصور السابقة أو اللاحقة موجاتٌ أثيريّة، نباتُ على ذكرى وحُلُم، ونُصبحُ على ألمٍ وأمل، والأفكار مثل قرى النمل وجيوشِها، ترتعشُ، لا تُراعي نزَقَنا، هواجسَنا، رعونتنا أحياناً، ولا غرابة، لا مضاضة، فكلّنا من شجرةِ الإنسانية، نقتطع من خشبها، من مائها ومشاعرها …
هناك، وقد ظلَّ قلبي وحيداً ينتظرُ عودتي، وبارقات الأمل مثل جنيّاتٍ صغيرةٍ في الحكايات، أحاورُها ولي أعوامي، أحملها بأجنحتها الرقيقة الشفّافة، وليس بقربي غير شجرةٍ، كانت زرعتها أمي، تطاردني ظلالُها بخبزٍ وصعتر، بدعاءٍ وسماء، بصوري الأولى، بحبوي وصوتي، بجهلي وعلمي، بأنّي في الحاضر والمستقبل .. استقبلُ وجودي
في بطون الكتب، حكاياتُنا البعيدة والقريبة، والمدُّ والجزرُ يتبعان القمر، في بطن قنينةٍ تطفو، رسالةٌ ستصل بعد ثمانين حولاً، والعرّاف في بطن الليل يشيرُ لخنجر، يكتشف عند انبلاج الفجر، كيف طعن به قلبه .. كيف قُتِل .. كيف يظلُّ يدفع الغرائبَ لتنمو ..؟ وقد أقام في قصبةِ لحمهِ وعظامه، يُحاكي سفنَ الفضاءِ الغازية
إليه، أعبرُ من ثقوب الأحلامِ مكتسياً ملائكَ النهار، يمنحونني أسماءهم، قبضةَ سماءٍ .. أدّخرُها لليالٍ لا تنام، وحائكُ الحياة يجيء بنا إلى الرواية لأجله، وكلُّ ما يُرى ليس على حقيقته، كأنّي قرينُ الأهواء، تُنشِبُ مخالبَ أفكارِها في العقائد، في أفواهِ السّطور، في هجرة القمح إلى ضفاف الطمي …
هناك، عند الجهات الأربع، حُرّاسُها الصنميو العروش، وبعض أطرافٍ لروبوتاتٍ قديمة، كيف صارت أمماً وشعوباً، فما تعارفوا، وقد صرتُ أُسرّعُ الخطى بلا مبالاةٍ لأمواتٍ سائرين، وقد تراخت مفاصلُها، وانبجست زيوتُها، على إثرها وضِعت خرائط بلاد النفط والغاز، وتبدّلتِ التحالفات، وانقسم العالم على نفسه، شمالٌ غنيٌّ وجنوبٌ فقير
عزفتُ على أوتار الشّمس، وعزفتُ عن هجرات دمي السبع، وفي الأمطار الجوّالة، مطارحُ الساعين إليها، وحيث مضيتُ ليس من مكان، وقد أبصرتُ كيف بصّرتُ.. كيف طينُ المعابدِ والمواخير منّي ..؟ وظنّي لو أكون خفيفاً كالريشة، قوياً كالصوان، مصقولَ المِداد، صنوانَ الضوء …
أرمي بنفسي فوق الصفحات، كلّما أوغلتُ فيها، أراني محاصراً بجُدُرِ المنافي، والطيور الحديديّة، تُصفِّقُ بأكُفِّ الغرباء، فما انصاعوا يدفعون بي، حتّى وقعتُ من مكاني بسرير أُمي وأبي، لو كان عقاباً، كنتُ الضوءَ الأوّلِ، في مجرٌةٍ اتّسعتْ لكواكبَ كثيرة، وطريق الحياةِ كأمواجٍ تتلاطم، نُرمى في غسّالةِ نورج الغربية كي تغسلَ آثامنا، ونكونَ خيوطَ ماكينة سينجر، تُطرِّزُ أجسادنا المُمزّقة، أو تلك الليفة النباتية ولوح صابون الغار .. يُعرِّياننا من جلودنا؛ فتختفي المسامات، اللمسات والنسمات، كمن يعود إلى عرائهِ الأزليّ.