• الخميس. نوفمبر 9th, 2023

رقصٌ بلون النبيذ

مايو 15, 2021

أحمد وهبي

قد يُذكِّرُنا تعدّدُ ألوان «الأحمر» بطيفِ كلٍّ منَّا، وقد تكاسرناهُ فاستحال تلك الشفاهُ والنار، ذلك الأصيلُ والنجيع والمداد، تلك الوردة.. كلَّما قُطفتْ تقضُّ مضاجعَ الأرواح، ذلك النبيذ الشهويُّ الشهيُّ الإبتسامة والفم، الخفيف الظلّ، الورِعُ الماءِ… يضمُّ دمَ الغواية بطعم الكرز والرمان والفراولة، برقصٍ بلونِ يومِ مولدي، وأنَّ هناك من ينتظرُني كي يرى صورته، برقصٍ بلون النبيذ… يستحمُّ بالدِّماء تحت الجلد؛ فالجسد البارد لا يحتاج لغير الدفء، وخلف أوتار الكمنجة نشوة الأمل، نتذوقها كأنَّما ما يكون الأصفى، لا تؤخذ بتشققٍ ولا غيلة، ترنو إلى كأسٍ بهاؤها مثل نصلٍ ملفوفٍ بجذوةٍ مرصَّعةٍ برائحةٍ… تكون جمعاً لجراحٍ نمشيها بعناقٍ عميقِ النظرات والليالي، بكؤوس شفقٍ وغسق… بذيّاكَ الأصيل يُغوي الّلهبَ، المُدامَ لينزفَ ماءً ونار…
حين تموت الحكايات والألوانُ في الراقصين، تصفو في أجسادٍ أخرى، وقد بذرتها الشموس وتناثرتها الرّياح، فكانت دماً لكلّ ثائرٍ في هذا السواد، عطراً يتدلَّى بغُنجٍ على أحلام الطائفين حول العناقيد… يتصَّعدون حلاوتها حتى الإختمار، نبيذاً معتَّقاً محفوفاً مأخوذاً بغراباتٍ مقدَّسة، هامساً فوق الشفاه… وهي عندما يحلُّ الليل باتّساع تجاسدها، وقد نام المنبوذون دون القطا، وهامَ الورَّاعُ العُبَّاد عن لوحة الحياة في حاناتها وغاياتها، وجمار الوصالِ أشدُّ من الفتنة وليسوا باردين، يلعبون بنار الّلذاذات حتى الثُمالة، والتيه يستدّرُ البكاء، تتثاقله كؤوس القلب والبدن، الذاكرة والعين حتى حدقاتٍ تخفَّت بخمارها الطفولي. ومرَّةً تكون الألوانُ نبيذيّةُ المذاق وقد قاسمتنا أضواءَنا واجسادنا، ملامحنا براقصين بلون النبيذ، ولا نعود بتلك السهولة إلى لونٍ لو كان…
وتناثرتُ بنكهة امرأةٍ في روحي، أدانيها بخلقِ ذاتي بعد خلقي الأول، ولي حيواتٌ أدخلها بإدمان، بإمعانٍ سابقِ الأحلام، والأحلام التي لا أتذكّر، أشعر بها تخربّشُ يومياتي، كما لو نتشكّلُ معاً. ونحو العمر من يحمل أقداماً فوق ظهره، يغنّي الذكريات بوحشة، واتّقادُ البوحِ صَهْرٌ لكلّ مشتهى، تلك الموشاة بمحوٍ أزليّ وإدراك، وفي الليلة الموعودة، اتّساقٌ لعزفٍ وذرفٍ يتكوّران برقصٍ بلون النبيذ، فإذا ما اختفى القمر تلكم الليلة… اختفى العمرُ بجرعة، بجرَّةِ قلمٍ وحُلُم، بريشةٍ راعفةٍ تنشد الحقول والسهوب، وانبسطت عتمة الليل على وجعٍ ورجْعٍ يتكئان إلى جسدٍ اتكأ إلى سريرٍ ما انفكَّ يكمن بكلّ التفاصيل، وقد أسرَّ لمقبلين بما يشبه طعم الحياة، فيها لا يعرف من يقصد…؟ وإن ذهب إليه بملامح لا تتغير…
كأنَّما آنستُ النسيان، ومنعتُ عليَّ كلّ سبيل، وأنتِ بكلّ ما تؤمنين في قلبي، وذنبي هذا القلب وهذي الدُّروب، وبعدما استيقظتُ من الدياجير والخطوب، جرفتني الذنوب، كأنَّما أُعيدُ عليَّ حتفي، فلا أبقى، لا أمضي، من ذا مثلي في هذا العشق…؟ وتلك الأيام مسافات وأوراق، فإذا ما اكتمل الشقاء تروقني الحياة، فلموتنا الخاص كنزٌ من الإنسانية، ولحياةٍ في كلٍّ قلوبٌ تُـقـَتَّـل، ولذاك المساء حين غادرْنا رصاص، ولكلّ ما يحدث فتنة، وأشدُّ منها إيثارُ جراحٍ وآلام، طفلٌ فوق سرير الأيام يفرح للبحر، لسماءٍ طائرة، ومقهى عند مفترق العمر…
لهذا العمر طعم الحنظل، وحنظلة أُمَّةٌ، موجات المدِّ والسعير، ولكلّ وجهٍ أغنية، جرحٌ كيمامة، ويكون الموت كالحياة، والحبُّ برعشة الأنفاس صرخاتُ الوحشةِ وضآلةِ الحنين، والذكرياتُ تستلقي على الدوام بحزين، بكامل الذاكرة قهرٌ وعنفٌ وجَوْر، وهذا المحيط المسجَّى كطفلٍ كنَّاهْ، فنام الوقت يحدّقُ بالوقت، والنكبة والنكسة منذ سنوات بعينين وسيعتين بعيدتين… قريبتين بالشرِّ، والّلكنات والّلكلمات، الكلمات المُطْمَسة بالتواطؤ، والدَّمُ كائناتٌ تخاطبُ هذا الدّمار حتى نسينا أرواحنا في الهروب، وهجرنا أبجديتنا الأولى كي نصوغَ الرماد، ولمَّا فرحنا حزِّنا وعاد الضآلون والمصلّون بالشهود والشهور والمسلات وأعياد الميلاد، ونذرنا للحِداد قرابين مِنّا، وعنَّا هذا القتلُ والسبيُّ وما كان، حتى نسينا «الله»… يا ألّـلـهُ ما أجمل الآه أولاً، ثانيّاً أعطاف المنتهى، ويبقى الحلم الذي لا ينكسر، وإن ترامتِ الخيامَ وصفائحَ التنكِ جيادٌ وجراد، المشاعرُ التي يهرب منها الآخرون، ولا يعرفون ما هي…
كنَّا نكبر، لا نجدُ حماقاتنا البيضاء، نركض لضوءٍ في الحلم، لحُلمٍ يشبهنا، نرغب فيه مثل حياةٍ أخرى في الحكاية، وإذا ما اكتنز ملح الفضاء، كنّا نستنزلُ الأحلامَ كي ندخلَ في كسائها، والماءُ المفتول العضلات، كان لُعابَ كائنٍ جفَّتْ صورُهُ، وفي عمق المطارح كما لو يكون شكلاً آخرَ للكلام، هذا المقيم في الضجر يروم عادات الأولّين، ولا حين مناص عن هذا الهزيع، في هذا العمق كنَّا نجدُ ظلالاً أمسكت عن البلوغ، ولهذا التكوين بلغنا أرواحنا عن الطين الأوّل، لهذا التكوين رُعاةٌ ومندَّسون، وكان ما بين الفرث والرفث، ما بين النهرين والنهدين آلهة الخير والشرّ، كان ألـ «نحن» نناجي ما انحفر على الأطياف، فها نحن من ألفِ الدِّماء بين الأمس واليوم وليس غيرنا في التيه، وقد ظنَّنا أن أحلاماً لا تكسرها النوائب، لأنَّا حين تباعدنا سُحِبْنا من الأيام، والأرضُ ندَّاهةُ البشر تنمو بطيننا، تلك الليلة في تمام بدرها تناثرنا بلا أحلامٍ وأيام، ألآ تبَّاً لهذا الطين لا يستكين.