• الخميس. نوفمبر 9th, 2023

الخطط المعمارية التي كانت ستغير وجه لندن

مارس 20, 2016

بعد «حريق لندن الكبير» الذي اجتاح المدينة عام 1666، وضع خمسة معماريين مختلفين خططا لإعادة بناء المدينة، لم يؤخذ بأي منها. لكن السؤال: ماذا كانت ستبدو العاصمة البريطانية لو نفذت إحداها؟

في عام 60 أو61 ميلاديا، أضرمت الملكة «بوديكا» ذات الشعر الأحمر، ملكة قبيلة «إيسني» البريطانية، حريقا هائلا في مدينة لندن الرومانية الوليدة وسوتها بالأرض. وبعد ذلك بستين عاما، دمر حريق آخر المدينة ذاتها، ثم أعيد بناؤها مرة أخرى.

في هذه المرة أعيد بناء «لندينيوم»، كما كان يطلق عليها الرومان، بموجب تخطيط مسبق، واتخدت شوارعها شكل الشبكة. الطريقان الرئيسيان الممتدان من الشرق إلى الغرب كانا يؤديان إلى ميدان عام، وكاتدرائية، ومدرج، ومعبد جوبيتر.

وكانت حياة المدينة ترتكز على هذه المباني والمساحات العامة الرئيسية، وأرصفة النهر المزدحمة، والجسر المليء بحركة المرور فوق نهر التميز، حيث يقع جسر لندن اليوم.

المثير للدهشة هو أن خطة لندن الرومانية تثبت أنها لم تكن مختلفة بشكل كبير عن الخطة التي رسمها السير «كريستوفر رن» قبل 350 عاما إثر حريق آخر، وهو «الحريق الكبير» الذي اجتاح لندن عام 1666.

بيد أن هذا التشابه لم يكن من قبيل الصدفة تماما، إذ أن كريستوفر رن كان لا يعرف سوى القليل عن «لندينيوم».

لكن لندن الجديدة التي تخيلها كانت تقع هندسيا على نفس الميل المربع الذي احتلته «لندينيوم»، وهي المنطقة التي عرفت أيام «رن» وفي أيامنا الحالية بمدينة لندن.

وكان تصميم المدينة مستوحى مما كان يعرفه «رن» عن الفن المعماري وتخطيط المدن الكلاسيكي ومن ثم الروماني.

وبحسب خطة رن، يتقاطع اثنان من الشوارع العريضة بشكل قطري مع شبكة من الشوارع الأنيقة ذات الوجهات الحجرية التي تصل من وإلى مركز لندن التجاري الكبير والجديد «رويال إكستشينج» وكاتدرائية القديس بولس المهيبة.

وكان يمكن أن يكون هذان المبنيان كنيسة رومانية ومعبدا وقتها.

الوظيفة أهم من الشكل

لم تبن المدينة وفقا لخطة رين، فبدلا من ذلك، بنيت المدينة على عجل على غرار المتاهة القديمة من شوارع القرون الوسطى.

وكانت لندن على عجل للعودة إلى العمل، واعتبرت خطط تشييد مدينة مبنية على شبكات من الشوارع مزينة بالساحات الفسيحة على الطراز الروماني عالية التكلفة، ويتطلب تنفيذها وقتا طويلا وبدت كأنها أضغاث أحلام.

ونتيجة لذلك، لم يكن لخطة «رن» تأثير فوري على لندن، لكن جرت الاستعانة بها ودراستها عدة مرات على مر السنين.

وعلى سبيل المثال، نفذ الجزء المتعلق ببناء السدود على طول نهر التميز من الجهة الغربية في القرن التاسع عشر.

ويمكن رؤية تأثير «رن» أيضا في الخطط التي وضعت في الأربعينيات من القرن الماضي لإعادة بناء لندن ما بعد الحرب.

وتعرض حاليا التصاميم الأربعة المتنافسة، التي قدمت لإدارة المدينة وللملك تشارلز الثاني عام 1666، في معرض المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين تحت عنوان «إبداع من الكارثة: كيف يعيد المعماريون بناء المجتمعات»، لكنها جميعا لم تكن محظوظة جدا.

وبإلقاء نظرة شاملة، فإن ما اعتبر هندسيا خططا لإعادة البناء كان في تناقض كبير مع لندن الحديثة المشيدة دون تخطيط إلى حد كبير اليوم.

مقترحات «كريستوفر رن» و «روبرت هوك» و «جون إيفلين» و «ريتشارد نيوكورت» و»القبطان فالنتاين نايت» التي تتحدث عن عهد من إعادة البناء يتوق إلى تشييد عاصمة قد تنافس روما في عصر النهضة بعد هروبها من ماضيها المحترق في القرون الوسطى.

وتعتبر الخطط التي وضعها الكاتب «جون إيفلين» والعالم «روبرت هوك» نسخا أكثر بساطة وأقل براعة من خطة «رن».

وما يصوره كل منهما هو مدينة تجارية فخمة، على الرغم من حجم الموقع المخصص لكاتدرائية القديس بولس الجديدة، وما يدل على أن مكانة الإله قد تراجعت أمام الجشع، حيث كانت الثروة كما هي الآن الآلهة الحاكمة في المدينة.

أما خطة «ريتشارد نيوكورت» فتختلف تماما، فهي ثيوقراطية في روحها، إذ تضع الإله والكنيسة في مركز الصدارة.

واقترح رسام الخرائط والرسام المعماري الشهير رقعة شطرنج من 64 مربعا، في قلب كل منها كنيسة.

وكان من الضروري كسر الشبكة الكنسية الصلبة في خطة نيوكورت من أجل السماح بإعادة بناء مركز المدينة التجاري المهم جدا وكاتدرائية القديس بولس، أكبر الكنائس على الإطلاق.

ورغم أنه يوجد في المدينة اليوم أكثر من خمسين كنيسة، فإنها متناثرة في الشوارع وقرب المحاكم والممرات والأزقة تماما كقطع أحجية معمارية مسلية.

التصدير المتمدن

ربما كانت خطة «نيوكورت» قد أثبتت تناقضها مع الروح التجارية للندن، لكنها أثرت على «ويليام بن» البروتستاتني الإنجليزي الذي أسس مدينة فيلادلفيا عام 1682.

طلب «بن» من رئيس المساحين «توماس هولمز» عمل مخطط في إطار مقسم مثل الشطرنج مليء بمنازل وحدائق بدلا من أماكن العبادة والتجارة. وكان يمتد هذا المخطط حتى فيلادلفيا في الولايات المتحدة.

أما القبطان نايت، وقد كان ضابطا ملكيا أثناء الحرب الأهلية الإنجليزية، فقد وضع خطة خامسة للندن يرتكز جوهرها على الأنشطة التجارية للمدينة.

وباستثناء كاتدرائية القديس بولس، كان هناك القليل من الكنائس يظهر في خطة نايت. ما اقترحه نايت كان خطة شبكة أخرى يقسمها شارعان يمتدان شرقا وغربا.

وهذان يتقاطعان مع ثمانية شوارع تمتد من الشمال إلى الجنوب وتشكل حارات أضيق تصطف على جانبيها المساكن.

رغم أن خطة «نايت» كانت تفتقر إلى الذوق الفني المعاصر، فإنها كانت تضم إنشاء قناة مائية واسعة تمتد حول المدينة النابضة بالحياة مجددا.

وقدر نايت أن الضرائب التي سيتم تحقيقها من حركة المرور على القناة ستحقق عائدات للتاج الملكي بقيمة 233.517 جنيها استرلينيا سنويا، وهو مبلغ يساوي أكثر من 32 مليون جنيها هذه الأيام وكان يمكن أن يسدد تكاليف بناء كاتدرائية القديس بولس الجديدة في أقل من خمس سنوات.

بيد أن الملك تشارلز الثاني لم يرحب بالفكرة. فكيف يجرؤ نايت على الإشارة إلى أن الملك سيحقق ثراء فاحشا ناتجا من «كارثة عامة»، وكان يعني الحريق العظيم بالطبع.

وبدلا من الحصول على الثناء، فقد زج بنايت في السجن.

ومع أن خطة «رن» هي التي وقع عليها الاختيار، فإنه لم ينفذ شيء منها. وباستثناء بعض الأماكن الأنيقة، فإن لندن لم تكن يوما مبنية على خطط معدة مسبقا. وحتى ميادينها الأنيقة والرائعة التي تعود لعهد الملك جورج يبدو أنها وضعت على الخارطة عشوائيا.

لندن مدينة بنيت مما توفر، مثل أحجية من الصور، وأحيانا مجموعة كبيرة من الشوارع والمباني الضيقة وبأي عدد من التصاميم والأنماط.

لندن في الأساس كانت دائما ماكينة لصنع المال، وغلبت التجارة على الثقافة حتى بدا وكأن هذا هو تصميمها. ومنذ القرن الثامن عشر، شهدت لندن نموا سريعا، ورغم المحاولات لبناء سلسلة من ميادين الحدائق المتصلة ببعضها لتجميل المدينة مع توسعها غربا، فإن التطور التجاري كان يتمدد سريعا للاستحواذ على أي قطعة أرض متاحة. لم يكن هناك الوقت أو الإرادة لوضع خطط أكثر ملاءمة وطويلة المدى.

أما بالنسبة لمدينة لندن نفسها، فقد كانت المباني، ولا تزال، تدمر وتستبدل بمواقع ضيقة تعود للعصور الوسطى ليس بهدف الحفاظ كثيرا على نمط الشوارع القديمة، بل لأن الخطط الطويلة المدى لفعل أي شيء آخر لا تزال مصدرا لإزعاج مكلف.

هذه العشوائية ترسم خريطة لندن وتعكس طاقتها الملتهبة وغير المتوقعة. مشهد الشوارع الذي غالبا ما يكون غامضا يعكس شعورا بالحركة الدؤوبة، شعورا مختلفا جدا عن الشعور بمدينة كلاسيكية هندسية هادئة. لو تمكن «رن» والمعماريون الآخرون من إقناع المدينة بتبن شكل ونمط مثاليين، لكانت قد بدت مدينة بسيطة بشكل أنيق وحتى مقيدة بحيث لا يمكنها التمدد كما تشاء.

لم يكن الحريق العظيم آخر فرصة لتخطيط لندن في إطار تصميم واحد رائع. بل أتت فرصة أخرى عندما احترقت مرة أخرى ـ هذه المرة أثناء الحرب الخاطفة.

خلال الحرب العالمية الثانية، دمر أكثر من 50 ألف منزل في داخل لندن، وأصيب أكثر من مليوني منزل بأضرار. كانت هذه أيضا حقبة المخطط المهني الحديث، الذي كان عازما على وضع تصميم مبسط للندن بإنشاء طرق سريعة جديدة ومبان شاهقة تحتوي على شقق عالية الجودة، وأرصفه للمشاة الذين يسيرون بتأن، منفصلة عن حركة المرور الطائشة، وميادين عامة واسعة تقابلها مبان فخمة.

وأصبحت خطط رن وهوك وإيفلين ونيوكورت ونايت، والتي وضعت إبان الحرب وبعدها وولدت من رحم حرائق العاصمة، مادة أرشيفية، وتاريخية، تصلح لزيارتها في المعارض.

لقد كانت لندن دائمة الانشغال لدرجة جعلتها غير مكترثة لمثل تلك الخطط الفخمة، وربما كان هذا هو الأفضل لها، إذا وضعنا جانبا تلك الحرائق الكبيرة التي تعرضت لها.