• الأربعاء. نوفمبر 8th, 2023

التهام

ديسمبر 22, 2020

ظاهرة الالتهام التي تستشري في هذه البلاد، عفوا في هذا المجتمع الذي أصبحت من أفراده تدهش حقا، وتستوقف الفكر للغوص فيها ليقف على الدوافع إلى ذلك الالتهام.
لأول وهلة سيخطر الطعام للبال، وهو قد يكون المنطلق إذا خصصناه باللحم تحديدا، فرائحة الشواء التي تتعالى هنا في سائر الأوقات، وتخترق على أمثالنا ثقوب سكينتهم، ستردّ إلى بخلاء أهل “مرو” الذين وصفهم الجاحظ، وهم يقلّبون أرغفة خبزهم على رائحة شواء جيرانهم، وستستثير في الذاكرة أيضا المقامة البغدادية، واحتيال بطلها لتسوّل غداء شهيّ يتقاطر منه الدّهن على حساب التاجر السواديّ، وستوقد في الذّهن أيضا فلسفة التوحش على مر العصور، وإن كانت الذبائح محللة في الشرائع الدينية تحت شكل أو آخر، يشذّ عنها بالطبع المنادون باحترام الطبيعة بحيوانها، وبالاقتصار على نباتها، ويُساق “المعري” هنا مناديا بتحريم ما يخرج البحر ظالما، أو اقتناص الطيور الوادعة في مرابعها، وإلى ما ذلك من التحريمات عند بعض طوائف من الهندوس، وما تقرّ به” الرجفيدا” أقدم النصوص الهندوسية بعدم التمييز بين أطعمة بعينها من حيث التحريم، لكن في الوقت نفسه توصي بعدم إيذاء أي كائن حيّ. هنا قد نتحسّس مناشدة ما إلى صيام أبدي، فهل يمكن أن يخمّد الالتهام اللحميّ بصيام أبديّ مثلا؟!..
أمس كانت الشرارة لهذا البوح الذي هو تراكم غزير التلصّص مُحلّل لكاتب مثلي، بقصد، أو دونما قصد، على ما أراه هنا من الانكباب على الطعام، والشواء تحديدا، وإن سبق ذلك معاشرة السرير بدقائق معدودة!.
المرأة التي جالستها البارحة مع حشد من السُّهّار استوقفني سؤالها حقا، وهي تستحثّني على الطعام، ومتابعة سهر قد يمتد إلى الفجر: لماذا لا تأكلين، أتخشين السمنة، وماذا ستفعلين في البيت وحدك؟!
السؤالان في الحقيقة يشرعان على اللامتناهي من الإجابات. المرأة التي كانت تحشو فمها حشوا، والساعة تصبّ في جوف الليل، وبالطبع لم يكن ذلك طعامها الأوحد منذ باكورة يومها، كانت تستغرب عدم محاكاتي الضيوف في التهامهم، وسهرهم المطوّل.
شعرت أني أيضا كنت مجالا لتلصّص قديم، لأن سؤاليها أوحيا إليّ بمدى استهجانها سلوكا مني يتكرر!

الشعور بالخواء. أعتقده المشكاة للاستفسارات كلها. الخواء الروحي، شبكة العنكبوت المريعة حين تشتبك بشرايين النفس، فلا تدع ممرا ضيقا يمكن أن يتنفس منه صاحبها الرؤية، حتى أن الالتهام ستتنوع صوره وأشكاله، من التهام للأحاديث الفارغة، والنميمة، وتشريح البشر طولا وعرضا، التهام للوقت الذي يتربّص بصاحبه حزينا يائسا، وانتهاء بالتهام الحرية حين ينحرف البشر عن مسارها المضيء. افتراس يحوّل البشر إلى تراكمات من الأنياب، ونصال من الشفرات لا تهدأ باتجاه بعضها.
لا يقتصر الأمر بالطبع على تلك المرأة كنموذج، فمن الرجال كثيرون أيضا اختلت بهم الموازين في هذا المجتمع الذي قد ينتأ عن غيره بالاتساع أرضا، وتكاثفا، وحرية، وتسامحا، والذي نماذجه لا تعدّ، ولاتحصى. كان الناس قديما يتبارون بفروسية النبلاء، حتى المجرمون كانت لهم كلمة شرف. “روبين هود” كان يسرق من أجل أن يهب الفقراء، يلتهم لغيره، كما يدّعي، لا يلتهم من أجل أن يردم خواء صاعقا، كالذي يهيمن اليوم!
في بعض الأحيان ينتابني التساؤل حول الحرية التي أراها تسرح في هذا المجتمع بثوب يتبرّأ منها، وهل العيب فيها، أم في الأشخاص الممارسين لها، أم العيب في الجهات التي تسمح بحريات لا تُحدّ بضوابط، أم مردّها أمور أعمق مما يطفو على السطوح؟!
الشّرف الذي يُهتك عفافه أمامي على مناضد اللحم، والذي وثقتُ أنّ الأعراف والمنطق، إن لم نقل الشرائع أيضا تعتبره إثما يلزم أن يُدارى إلى أن يبرأ منه صاحبه، يبيتُ أكثر من طبيعيّ، وعادي، بعد أن يُصيّر مادة للتّندر مع فرقعة اللبّ إثرَ أسياخ من الشواء يكتوي بها الجمر صامتا أخرس