• الخميس. نوفمبر 9th, 2023

ألبانيا: دروس في كرم الضيافة مع الوافدين عبر التاريخ

يناير 25, 2017

يبدو أن هناك الكثير مما يمكن تعلمه من ولع الألبان بكرم الضيافة، وذلك في وقت يُصَدُ فيه اللاجئون عند حدود العديد من الدول في مختلف أنحاء العالم.
«أُقيمت مخيماتٌ للاجئين لاستيعاب القادمين من كوسوفو في مختلف أنحاء البلاد في ألبانيا. وكان بوسع الأسر الألبانية الذهاب إلى هذه المخيمات لكي تأخذ كلٌ منها أسرةً لاجئةً إلى بيتها»، هكذا قالت فتاةٌ ألبانية تُدعى نافيا موكا، وأنا ارتشف فنجانا من القهوة في مقهى صغير بمدينة «بيرات» الألبانية، المعروفة باسم «مدينة الـ 1001 نافذة».
وتابعت موكا حديثها قائلة: «لم تكن هناك علاقة قرابة أو صداقة تربط بين مثل هذه الأسر، بل كان لاجئو كوسوفو محض غرباء، لكن الألبان كانوا يوفرون لهم المأوى والمأكل والملبس، ويعاملونهم على أنهم جزءٌ من الأسرة».
جاء حديث «موكا» في سياق ما كانت تتذكره من الآثار التي لحقت بألبانيا جراء الحرب التي دارت في كوسوفو في تسعينيات القرن الماضي. وفي تلك الفترة تدفق على ألبانيا – على مدار عامين لا أكثر – ما يزيد على نصف مليون لاجئ كوسوفي، غالبيتهم من ذوي الأصول الألبانية.
ولاذ هؤلاء بألبانيا فرارا من القتل والدمار الذي أشاعته القوات الصربية في بلادهم.
وعندما واصلت الفتاة حديثها،أدركت أنها عايشت موجة النزوح الجماعي هذه عن قرب، فقد أخبرتني أن جدتها لأمها وفرت الملاذ لإحدى الأسر القادمة من كوسوفو.
وتابعت: «كنت صغيرة في السن. لذا، أتذكر أنني كنت ألهو كثيرا مع أطفال هذه الأسرة. أذكر أنهم كانوا خبازين مهرة، فقد أعدوا أفضل خبز تذوقته في حياتي على الإطلاق».
وسألتها: «ألم تنشأ صعوباتٌ قط بينكم؟»، فأجابت: «ليس بالنسبة لنا. أمورنا مضت على ما يرام. لكن الأمر كان يشكل تحديا بالنسبة للعديد من الأسر، فالكثير منها لم يكن لديه مالٌ كافٍ لتوفير المساعدة للقادمين من كوسوفو. وقد استدان الكثيرون لهذا السبب. ولكنهم لم يكونوا ليردوا شخصا» لاذ بهم.
عندما سألتها عن السبب الذي حدا مواطنيها للقيام بذلك؛ هزت موكا كتفيها قائلة: «هذه هي الطريقة الألبانية (في التعامل مع مثل هذه الأمور). إنها الثقافة التي تعرف بالألبانية باسم ‹بَسا›».
كانت هذه هي المرة الأولى التي اسمع فيها تلك المفردة الألبانية في سياق مثل هذا، فقد سمعتها من قبل في سياقاتٍ جعلت معناها أقرب إلى كلمات مثل «الاعتقاد»، أو «الإيمان»، أو «الثقة».
وأوضحت موكا أن تلك الكلمة في مثل هذا السياق تشير إلى قانون أو عُرف أصيل لدى الألبان يُملي عليهم التحلي بكرم الضيافة والسخاء مع الغرباء. ويشير ببساطة إلى أنه يتعين على كل ألباني توفير المأوى لأي شخص يأتيه طالبا المساعدة.
انبهرت بمفهوم الـ»بَسا» بعد نقاشي مع هذه الفتاة الألبانية، وسعيت للتعرف على المزيد من المعلومات بشأنه، وهو ما دفعني للقاء طالب جامعي ألباني مولع بالتاريخ، كنت قد قابلته قبل ذلك خلال وجودي في البلاد.
كنت موقنا أنه إذا كان هناك من يعلم تفاصيل أكثر عن هذا المفهوم، فلن يكون سوى ذلك الطالب الذي يُدعى أورغست بَكيري.
لدى لقائنا، شرح لي بكيري أن اتباع هذا التقليد استمر عبر القرون، كجزءٍ من مجموعة «قوانين عرفية» سُنت في القرن الخامس عشر تحت اسم «قانون يكيه دوكاتيلي»، واستهدفت إدارة شؤون القبائل التي كانت تعيش وقتذاك في شمال ألبانيا.
ورغم أن هذا «القانون» غالبا ما يُعد المصدر الأصلي لمفهوم الـ «بَسا»، فإن كثيرين يقولون إن هذا التقليد الاجتماعي كان موجودا – في حقيقة الأمر – منذ ما قبل القرن الخامس عشر بكثير، وأن كل ما فعلته تلك القوانين العرفية لم يتجاوز صياغة مثل هذه التقاليد القبلية القائمة منذ أمد طويل، في صورة نصوص مكتوبة.
وتلا عليّ هذا الطالب الجامعي الألباني قولا مأثورا قديما دُوِّن في هذه المجموعة من القوانين يقول: «البيت يخص الله، والضيف أولا، قبل أن يعود إلى مالكه».
وتابع الشاب: «هذا تقليدٌ راسخٌ، وفي العصور القديمة كان بوسعك إن كنت مسافرا أو طالبا للمأوى والملاذ أن تطرق باب أول منزل يصادفك وتسأل ربَه ‹هل تريد استضافة زوار؟›
وفي هذه الحالة كان يتوجب عليه استضافتك. فهذا ‹القانون› يقول إنه يتوجب على سيد البيت أن يكون لديه على الدوام فراشٌ احتياطٌي جاهزٌ في أي وقت من الليل أو النهار، تحسبا لوصول زائر على نحو غير متوقع».
وسألته هنا: «كان ذلك إذا أمرا واجبا… أي أنك كنتَ ملزما بموجب قانون ‹بَسا› باستضافة الآخرين حتى إن لم تكن راغبا في ذلك؟».
فأجاب: «لم يكن الأمر على هذه الشاكلة بالضبط.. أجل، يشكل ذلك واجبا، لكن يمكن القول بصراحة إن غالبية الألبان يستمتعون بحق بتقديم واجب الاستضافة للزائرين. فهذا يمثل مبعث فخرٍ بالنسبة لهم.»
وأضاف: «في الحقيقة، هناك قصة قديمة تحكي عن بلدةٍ في مكان ما في الشمال، ثار أهلها عندما علموا بأن فندقا سيُشيد على أراضيها. وذهب الجميع إلى مقر البلدية للشكوى، قائلين إنه ليس على من يريدون مأوى في بلدتهم، سوى أن يأتوها ويطرقوا أبواب دور سكانها»، لكي ينالوا ما يريدون.
ورغم أن بعض الجوانب الأكثر صرامة من قانون الـ»بَسا» فقدت بمرور الوقت قدرتها على إلزام الألبان باتباعها، فإن الإحساس العام بالواجب والمسؤولية وضرورة التحلي بحسن الضيافة، ظل صامدا في نفوسهم.
من جهة أخرى، ومع أن الحرب في كوسوفو شكلت بالقطع أكبر أزمة تعاملت معها ألبانيا في تاريخها، إلا أنها لم تكن الأولى من نوعها ولا الأخيرة.
ولا يعرف كثيرون أن ألبانيا كانت من بين الدول الأوروبية القليلة التي وقت انتهاء الحرب العالمية الثانية كان على أراضيها عددٌ من اليهود يفوق ما كان موجوداً فيها عند بداية هذه الحرب؛ إذ أنقذت كل مواطنيها ممن يعتنقون هذه الديانة تقريباً، ووفرت كذلك المأوى لأكثر من ألفين آخرين تدفقوا عليها من الدول المجاورة.
ورفض الألبان حينذاك التخلي عن ضيوفهم رغم الضغوط التي تعرضوا لها في هذا الشأن، من قبل قوات الاحتلال النازي ومن جانب الفاشيين الإيطاليين، فالقيام بذلك لم يكن سيجلب لهم عارا كبيرا فحسب، وإنما كان سيلزمهم كذلك بوصفهم «أسيادا للدار» وأصحابا للضيافة بـ»غسل الدماء»، أي الأخذ بالثأر.
في الآونة الأخيرة، وجد الألبان أنفسهم مجددا يوفرون واجبات الضيافة بمقتضى مفهوم الـ»بَسا»، ولكن هذه المرة لمن قَدِموا نازحين من منطقة الشرق الأوسط.
ويقيم الآن مئات من المنفيين الإيرانيين في ألبانيا، بعدما نُقلوا إليها من معسكرٍ في العراق كان يُعرف باسم «معسكر الحرية».
كما أعرب رئيس الوزراء الألباني، آدي راما، عن الرغبة في تقديم المساعدة للاجئين السوريين، شريطة التوصل إلى اتفاق تعاونٍ في هذا الشأن مع دولٍ أوروبيةٍ أخرى. وقال إن ألبانيا لن تتجاهل واجبها في هذا الصدد.
لكن رغم كل هذه الأمثلة البطولية، فإن الخدمات التي أسدتها ألبانيا – التي لا تهوى الادعاء والتفاخر- لحشودٍ غفيرةٍ من البشر تنتمي إلى دول عدة؛ لم تُقدر حتى الآن حق قدرها.
فالحقيقة تبقى أن هذا البلد الواقع في منطقة البلقان فقيرٌ وصغير المساحة، لذا لا يبدي العالم اهتماما يُذكر بمآثره. ولكن ففي الوقت الذي يُصد فيه اللاجئون عند حدود العديد من الدول في مختلف أنحاء المعمورة، يبدو أن هناك الكثير مما يمكن لنا تعلمه من ولع الألبان بكرم الضيافة.
في وقت لاحق، أطلعت الفتاة الألبانية «موكا» على انطباعاتي وأفكاري في هذا الشأن، وذلك بعد وقت طويل من النقاش الذي جرى بيننا حول العائلة الكوسوفية التي وفرت لها أسرتها المأوى.
قلت لها إنه لأمرٌ مخزٍ ألا يعرف العالم غالبية ما فعلته ألبانيا، فيما يتعلق بتقديم العون للأجانب ممن قصدوها طلبا للأمان واللجوء، وإن «ألبانيا ليست على الرادار العالمي في هذا الشأن، وهو ما يجعل غالبية هذه الأشياء تحدث دون أن يهتم بها أحد».
قابلت موكا حديثي بإيماءة من رأسها وبابتسامة تشير إلى سابق علمها بما قلته لها للتو، ثم قالت: «أجل. ولكنك الآن تعلم وهذا شيءٌ مهم. بوسعك الشروع في إخبار الآخرين. وربما في يومٍ ما سيعلم باقي العالم ذلك».