• الأربعاء. نوفمبر 8th, 2023

في مديح الفراغ

فبراير 28, 2016

نصري الصايغ

فلنسمِّ الأمور بأسمائها: الفراغ في لبنان، نعمة. لولا الفراغ في الرئاسة والوزارة والمجلس النيابي، لكان على «الدولة» أن تواجه استحقاقات إقليمية، تقصم كيانها السياسي. الفراغ، يحمي لبنان، والحجة مقنعة. لسنا موجودين ليكون لنا موقف. وبإمكان تسيير الأمور، بالمياومة، بالتي هي أحسن، بالتي هي أسوأ، حفاظاً على الفراغ الذي يحمي ظهر لبنان. من دون الفراغ، ينقصم.
لا يُتّهم الفراغ باعتلال الدولة. مشكلة النفايات، سابقة على الفراغ. مشكلة الكهرباء تستنزف اللبنانيين منذ عقدين ونصف. الموازنة غائبة برغم حكومات «الوفاق» و «الوحدة الوطنية» و «المصلحة الوطنية». أزمة السجون مزمنة. الحكومات كلها تعرفها. لا صوت يعلو على صوت «الفساد البنّاء»، من دونه لا اقتصاد ولا قدرة على العيش. إدارات الدولة سائبة ومسيَّبة ومكشوفة، فهي بيت الداء. إلى آخر ما يعاني منه البلد… كل ذلك، سابق على الفراغ. السلطة في لبنان تشبه مجتمعها. بيئاتها الحاضنة تحميها، ولو كانت على خصام أو في نزاع أو على شفا صراع. وهذا الفراغ هو الابن الشرعي لهذه البيئات العابرة لحدود لبنان، انتماء أو التزاماً أو انتفاعاً أو استتباعاً. السعودية في لبنان، محتضنة من بيئة مذهبية وسياسية، وإيران في لبنان، محتضنة من بيئة أخرى مذهبياً وسياسياً. والفريقان أمينان على التزامهما، ويتعايشان ويتحاوران ولا ينأيان بالنفس، عما هو ما بعد حدود لبنان.
هذا هو لبنان. عبقريته انه دولة ولا دولة أيضاً، إنه نظام، ونظامه غير ملزم لأهله، وانه دستور، ولكل مادة تفسيران أو أكثر، وأن شعبه، شعوب لا تكتفي بوطنها وطناً. أوطانها تمتدّ من هنا إلى كل هناك عربي أو غير عربي. والسؤال: متى كان لبنان على غير هذه الصورة؟
لبنان اللبناني نادر الوجود. من زمان، يعيش بهويات متناقضة وأحياناً متنافسة وأحياناً متحاربة. مقدمة الدستور، حبر على ورق، عروبة لبنان نصاً لا تعني شيئاً في الواقع. البيانات الوزارية، تصلح للتلاوة عند نيل الثقة. لا ثقة بما يُكتب. ولا ثقة بما يُنفذ… «العشوائية البنّاءة» هي السمة التي تطبع سياسيي لبنان… من زمان لم يكن لبنان بهوية واحدة، أو بهويات متصالحة. كان فينيقياً في مواجهة السورية والعروبة. ثم انعزالياً في مواجهة تيارات الوحدة، ثم فلسطينياً في مواجهة التصهيُن، وكان ناصرياً في مواجهة السعودية، ثم سورياً في مواجهة العراق، ثم… لم يكن مرة وطناً، بسياسة خارجية واحدة. وصدق وزير الخارجية الأسبق عندما واجه شارل مالك إبان التحضير لمشروع ايزنهاور في الخمسينيات، بقوله: «إن السياسة الخارجية يرسمها الشارع»، لا الوزارات ولا الرئاسات… وعندما يتصدَّع الشارع، يصير الانحياز سبباً من أسباب الانفجار. النأي بالنفس قديم. «لا هيك ولا هيك»، حسب تعبير رئيس الحكومة الأسبق حسين العويني.
الفراغ المستفحل في لبنان، أنقذ البلد من تداعيات «الانتقام السعودي» بعد سحب «المكرمة العسكرية». الفراغ، حمى مجلس الوزراء. لولاه، لاستقالت الحكومة ودخلنا في العدم. الفراغ أفضل من العدم. العدم يهدّد شرعية الكيان، ويدفع التعصب إلى التسيُّب الأمني. تتراخى قبضة المؤسسات الأمنية والعسكرية، يصير الفلتان مكلفاً… التمسك بالحكومة، كخيمة أخيرة يحتمي بها اللبنانيون، فرض على فريقَي السلطة، أن يخرجا ببيان يحظى بموافقة الجميع قد لا يرضي السعودية، ولكنه يفسّر للجميع، أن هذا أقصى ما نستطيعه موحّدين. أكثر من ذلك، تتناثر الوحدة الوطنية ميدانياً، بين السعودية وإيران، «ولات ساعة مندم».
محكوم لبنان بأن يكون هكذا. انقسام وتقاسم. بطاقة العبور إلى لبنان، لم تعد قضايا قومية. صارت لصيقة بالانتماءات المذهبية. سوريا القومية ذبحتها المذهبية والاثنية. العراق الوحدوي، نالت منه المذاهب والأقوام وشلّعت جغرافيته. اليمن كذلك، البحرين بالمثل. فهل ينجو لبنان؟ يصعب ذلك، إذا تمادت السعودية في تدفيع الثمن للبنان، وإذا جاراها فريقها في ذلك.
«حكماء الفراغ» نجحوا بتحييد لبنان عن العنف المتمادي في الإقليم، ولبنان جزء من هذا العنف، ولكنه عنف يتموضع في الجبهات السورية. يبدو، أن الحياد مستحيل، وتغيير المواقف من سابع المستحيلات. فالفريق السعودي سيبقى على ولائه، والفريق الآخر سيبقى على انتمائه. المفاضلة عبثية. كل فريق موجود في مكانه الطبيعي، والمكان حدّدته الهويات الطائفية والمذهبية، والسياسات في لبنان، تحدّدها الأهواء قبل المصالح، فكيف إن كانا توأمين؟
«الانتقام السعودي» يجيء في زمن البحث عن حل في سوريا، وعن وقف مؤقت لإطلاق النار. يبدو أن المملكة ليست في وارد التصديق. التعطيل هو المرجّح، لترجيح كفة الميدان، في سوريا وفي اليمن. ما تزال السعودية في مرحلة الهجوم، قد يدفع لبنان أثماناً، ولكنه، إذا حافظ على «خيمته»، يهون عليه تأديتها.
أما بعد، فإن التهديد بطرد اللبنانيين من دول الخليج، يعتبر خرقاً فادحاً لحقوق الإنسان، ومعاقبة مَن لم يرتكب ذنباً، سوى أنه من مذهب لم يكن له حظّ في اختياره.
بئست هذه البلاد.